Skip to main content
search

حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: كُنْتُ في مُنْصَرَفي مِنَ الْيَمنِ، وَتَوَجُّهِي إلى نَحْوِ الوَطَنِ، أَسْرِى ذَاتَ لَيْلَةٍ لا سَانِحَ بِهَا إِلاَّ الضَّبُعُ، وَلا بَارِحَ إِلاَّ السَّبُعُ، فَلَمَّا انْتَضَى نَصْلُ الصَّبَاحِ، وَبَرَزَ جَبِينُ المِصُبَاحِ، عَنَّ لي في الْبَرَاحِ، رَاكِبٌ شَاكي السِّلاحِ، فأَخَذَنِي مِنْهُ ما يأَخُذُ الأَعْزَلَ، مِنْ مِثْلِهِ إِذا أَقْبَلَ، لكِنّي تَجَّلَدْتُ فَوَقَفْتُ وَقُلْتُ: أَرْضَكَ لا أُمَّ لَكَ، فَدُونِي شَرْطُ الحِدَادِ، وَخَرْطُ القَتادِ، وَحَمِيَّةٌ أُزْدِيَّةٌ، وَأَنَا سِلْمٌ إِنْ كُنْتَ، فَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: سِلْماً أَصَبْتَ، وَرَفِيقاً كَمَا أَحْبَبْتَ، فَقُلْتُ : خَيْراً أَجَبْتَ، وَسِرْنَا فَلَمَّا تَخَالَيْنَا، وَحِينَ تَجَالَيْنَا، أَجْلَتِ القِصَّةُ عَنْ أَبي الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيِّ، وَسَأَلَنِي عَنْ أَكْرَمِ مَنْ لَقَيْتُهُ مِنَ المُلُوكِ، فَذَكَرْتُ مُلُوكَ الشَّامِ، وَمَنْ بِهَا مِنَ الكِرَامِ، وَمُلُوكَ العِرَاقِ وَمَنْ بِهَا مِنَ الأَشْرافِ، وَأُمَرَاءِ الأَطْرَافِ، وَسُقْتُ الذِّكْرَ، إِلَى مُلوكِ مِصْرَ، فَرَوَيْتُ مَا رَأَيْتُ، وَحَدَّثْتُهُ، بِعَوارِفِ مُلُوكِ اليَمَنِ، وَلَطَائِفِ مُلُوكَ الطَّائِفِ، وَخَتَمْتُ الجُمْلَةَ، بِذِكْرِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَأَنْشأَ يَقُولُ:

يَا سَارياً بِنُجُومِ اللَّيْلِ يَمْدَحُهَا *** وَلَوْ رَأَى الشَّمْسَ لَمْ يَعْرِفْ لَهَا خَطَرَاً

وَوَاصِفاً لِلْسَّوَاقِي هَبْكَ لَمْ تَزُرِ الـ *** بَحْرَ المُحِيطَ أَلَمْ تَعْرِفْ لَهُ خَبَرا

مَنْ أَبْصَرَ الدُّرَّ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ حَجَر *** اًوَ مَنْ رَأَى خَلَفاً لَم يَذْكُرِ الْبَشَـرا

زُرْهُ تَزُرْ مَلِكاً يُعْطِي بِأَرْبَعَةٍ *** لَمْ يَحْوِهَا أَحَدٌ وَانْظُرْ إِلَـيٍهِ تَـرَى

أَيَّامَهُ غُرَراً، وَوَجْهَهُ قَمَراً *** وَعَزْمَهُ قَدَراً ، وَسَيْبَهُ مَطَرَا

مَا زِلْتُ أَمْدَحُ أَقْواماً أَظُنُّهُمْ *** صَفْوَ الزَّمَانِ؛ فَكَانُوا عِنْدَهُ كَدَرَا

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُلْتُ: مَنْ هَذا المَلِكُ الرَّحِيمُ الكَرِيمُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ، مَا لَمْ تَبْلُغْهُ الظُّنُونُ؟ وَكَيْفَ أَقْولُ، مَا لَمْ تَقْبَلُهُ العُقُولُ؟ وَمَتَى كَانَ مَلِكٌ يَأْنَفُ الأَكَارِمَ، إِنَّ بَعَثَتْ بِالدَّرَاهِم؟ وَالذَّهَبُ، أَيْسَرُ مَا يَهَبُ، وَالالْفُ، لا يَعُمُّهٌ إِلاَّ الخَلْفُ، وَهَذا جَبَلُ الكُحْلِ قَدْ أَضَرَّ بِهِ المِيلُ فَكَيْفَ لا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ العَطَاءُ الجَزِيلُ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَلِكٌ يَرْجعُ مِنَ البَذْلِ إِلَى سَرَفِهِ، وَمِنَ الخُلْقِ إِلَى شَرَفِهِ، وَمِنَ الدّيْنِ إِلَى كَلَفِهِ وَمِنَ المُلْكِ إِلى كَنَفِهِ، وَمِنَ الأَصْلِ إِلى سَلَفِهِ، وَمِنَ النَّسْلِ إِلى خَلَفِهِ:

فَلَيْتَ شِعْرِيَ مَنْ هَذِي مَآثِرُهُ *** ماذَا الَّذِي بِبُلُوغِ النَّجْمِ يَنْتَظِرُ؟!.

بديع الزمان الهمذاني

أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد المعروف ببديع الزمان الهمذاني ، (358 هـ/969 م - 395 هـ/1007 م)، كاتب وأديب من أسرة عربية ذات مكانة علمية مرموقة استوطنت همدان وبها ولد بديع الزمان فنسب إليها، يعتبر كتاب المقامات أشهر مؤلفات بديع الزمان الهمذاني الذي له الفضل في وضع أسس هذا الفن وفتح بابه واسعاً ليلجه أدباء كثيرون أتوا بعده.

Close Menu

جميع الحقوق محفوظة © عالم الأدب 2024