Skip to main content
search

حَدَّثَنا عِيسِى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَارسْتانَ البَصْرَةِ وَمَعِي أَبُو داوُدَ المُتَكَلِّمُ، فَنَظَرْتُ إِلَى مَجْنُونٍ تَأْخُذُنِي عَيْنُهُ وَتَدَعُنِي فَقالَ: إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ فَأَنْتُمْ غُرَباءُ، فَقُلْنَا: كَذلِكَ، فَقَالَ: مَنِ القَوْمُ للهِ أَبُوهُمْ؟ فَقُلْتُ: أَنَا عِيسَى ابْنُ هِشامٍ وَهَذَا أَبُو دَاوْدَ المُتَكَلِّمُ فَقالَ: العَسْكَرِيُّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: شَاهَتِ الوُجُوهُ وَأَهْلُهَا إِنَّ الخَيْرَةَ للهِ لا لِعَبْدِهِ، وَالأَمُورَ بِيَدِ اللهِ لا بِيَدِهِ وَأَنْتُمْ يا مَجُوسَ هذِهِ الأُمَّةِ تَعِيشُونَ جَبْراً، وَتَمُوتُونَ صَبْراً وَتُسَاقُونَ إِلى المَقْدُورِ قَهْراً، وَلَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذينَ كُتِبَ عَلَيْهِم القَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ، أَفَلا تُنْصِفُونَ، إِنْ كَانَ الأَمْرُ كَمَا تَصِفُونَ؟ وَتَقُولونَ: خالِقُ الظُلْمِ ظَالِمٌ! أَفَلا تَقُولُونَ: خَالِقُ الهُلْكَ هَالِكٌ؟ أَتَعْلَمُونَ يَقِينَاً، أَنَّكُمْ أَخْبَثُ مِنْ إِبْليسَ دِيناً؟ قَالَ: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَني، فَأَقَرَّ وَأَنْكَرْتُمْ وَآمَنَ وَكَفَرْتُمْ، وَتَقُولونَ: خُيِّرَ فَاخْتَارَ، وَكَلاَّ فَإِنَّ المُخْتارَ لاَ يُبْعَجُ بَطْنَهُ، وَلاَ يَفْقَأُ عَيْنُهُ وَلا يَرْمِى مِنْ حالِقِ ابْنَهُ، فَهَلِ الإِكْرَاهُ إِلاَّ مَا تَرَاهُ؟ وَالإِكْرَاهُ مَرَّةً بِالمَرَّةِ وَمَرَّةً بِالدِّرَّةِ. فَلْيُخْزِكُمْ أَنَّ القُرْآنَ بَغِيضُكُمْ، وَأَنَّ الحَديثَ يَغِيظُكُمْ، إِذَا سَمِعْتُمْ: ” مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ” أَلْحَدْتُمْ وَإِذَا سَمِعْتُمْ: ” زُوِيَتْ لِيَ الأَرْضُ فَأُرِيتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا ” جَحَدْتُمْ وَإِذَا سَمِعْتُمْ: ” عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَقْطِفَ ثِمَارَهَا، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ حَتَّى اتَّقَيْتُ حَرَّهَا بِيَدِي ” أَنْغَضْتُمْ رُؤُوسَكُمْ وَلَوَيْتُمْ أَعْنَاقَكُمْ وَإِنْ قِيلَ: ” عَذابُ القَبْرِ ” تَطَيَّرْتُم، وَإِنْ قيلَ: ” الصِّراطُ ” تَغَامَزْتُمْ وَإِنْ ذُكِرَ المِيزَانُ قُلْتُمْ: مِنَ الفِرْغِ كِفَّتَاهُ، وَإِنْ ذُكِرَ الكِتابُ قُلْتُمْ: مِنَ القِدِّ دَفَّتَاهُ، يَا أَعْدَاءَ الكِتابِ وَالحْديثِ، بِماذَا تَطَّيَّرُونَ؟ أَباللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ تَسْتَهْزِئُونَ؟. إِنَّما مَرَقتْ مَارِقَةُ فَكَانُوا خَبَثَ الحَديثِ، ثُمَّ مَرَقْتُمْ مِنْها فَأَنْتُمْ خَبَثُ الخَبِيثِ، يَا مَخَابِيثَ الخَوارجِ، تَرَوْنَ رَأَيَهُمْ إِلاَّ القِتَالَ! وَأَنْتَ يا ابْنَ هِشامٍ تُؤْمِنُ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُ بِبَعْضِ؟ سَمِعْتُ أَنَّكَ افْتَرَشْتَ مِنهُمْ شَيْطَانَةً! أَلَمْ يَنْهَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَتَّخِذَ مِنْهُمْ بِطَانَةً؟. وَيْلَكَ هَلا؟ َتَخَيَّرْتَ لِنُطْفَتِكَ، وَنَظَرْتَ لِعَقِبِكَ؟ ثُمَّ قَالَ: الَّلهُمَّ أَْبِدْلِني بِهؤُلاءِ خَيْراً مِنْهُمْ، وَأَشْهِدْنِي مَلائِكَتَكَ.

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَبَقِيتُ وَبَقِي أَبُو دَاوُدَ لا نُحِيرُ جَوَاباً، وَرَجَعْنَا عَنْهُ بِشَرٍ وإِنِّي لأَعْرِفُ فِي أَبي دَاوُدَ انْكِسَاراً، حَتَّى إِذَا أَرَدْنَا الافْتِراقَ قَالَ: ياعِيسَى هَذا وَأَبِيكَ الحَدِيثُ، فَمَا الَّذي أَرَادَ بِالشَّيْطَانَةِ؟ قُلْتُ: لاَ واللهِ مَا أَدْرِي، غَيْرَ أَنِّي هَمَمْتُ أَنْ أَخْطُبَ إِليَّ أَحَدِهِمْ وَلَمْ أُحَدِّثَ بِما هَمَمْتُ بِهِ أَحَداً، وَاللهِ لا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَداً، فَقَالَ: مَا هَذا وَاللهِ إِلاَّ شَيْطَانٌ فِي أَشْطَانٍ، فَرَجِعْنَا إِلَيْهِ، وَوَقَفْنَا عَلَيْهِ، فَابْتَدَرَ بِالْمَقَالِ، وَبَدأَنَا بِالسُّؤَالِ، فَقالَ: لَعَلَّكُمَا آثَرْتُمَا، أَنْ تَعْرِفَا مِنْ أَمْرِي ما أَنْكَرْتُمَا، فَقُلْنَا: كُنْتَ مِنْ قَبْلُ مُطَّلِعَاً على أُمُورِنَا، وَلَمْ تَعْدُ الآنَ مَا في صُدُورِنَا، فَفَسِّرْ لَنَا أَمْرَكَ، وَاكْشِفْ لَنَا سِرَّكَ، فَقالَ:

أَنَا يَنْبُوعُ الـعَـجَـائِبْ *** فِي احْتِيَالِي ذُو مَرَاتِبْ

أَنَا فِي الحَـقِّ سَـنَـامٌ *** أَنَا في البَاطِلِ غَارِبْ

أَنَا إِسكَنْدَرُ دَارِي *** فِي بِلادِ اللهِ سِـــارِبْ

أَغْتَدِي فِي الدَّيْرِ قِسِّيساً *** وَفي المَسْجِدِ رَاهِبْ.

بديع الزمان الهمذاني

أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد المعروف ببديع الزمان الهمذاني ، (358 هـ/969 م - 395 هـ/1007 م)، كاتب وأديب من أسرة عربية ذات مكانة علمية مرموقة استوطنت همدان وبها ولد بديع الزمان فنسب إليها، يعتبر كتاب المقامات أشهر مؤلفات بديع الزمان الهمذاني الذي له الفضل في وضع أسس هذا الفن وفتح بابه واسعاً ليلجه أدباء كثيرون أتوا بعده.

اترك ردا

Close Menu

جميع الحقوق محفوظة © عالم الأدب 2024