كيف تقرأ لدوستويفسكي؟

كيف تقرأ لدوستويفسكي؟ - عالم الأدب

دوستويفسكي، عبقري الأدب الروسي البائس..
حياة متقلبة بين الديون والقمار والجوع والبرد والمرض والمصائب، لم تمنعه من تخليد اسمه في ديوان الأدب بحروف من ذهب. كنت قد تحدثت عن بعض جوانب حياته الغريبة في تدوينة سابقة بعنوان “دوستويفسكي.. بعيون زوجته” قدمت فيها مراجعة للمذكرات التي كتبتها آنا غريغوريفنا زوجة فيودور ونشرتها بعد وفاته، وقد راودتني دائما فكرة تقديم عرض مبسط لأهم مؤلفاته والمساهمة بمجهود متواضع في توجيه القارئ لمطالعتها بالطريقة المناسبة.

لماذا؟
ببساطة شديدة لأن معظم القراء المبتدئين ممن يسمعون عن رائد الأدب النفسي لأول مرة يسقطون في فخ الذهاب مباشرة إلى أشهر أعماله، أتحدث هنا عن “الجريمة والعقاب” و”الإخوة كارامازوف”، فيجدون أنفسهم أمام متاهة عسيرة الهضم، ونصوص تتطلب نفسا طويلا والكثير من الصبر لاستيعاب معانيها، لتنتهي “مغامرة” الدخول العشوائي إلى عوالم دوستويفسكي المعقدة بنتيجتين متباينتين:

1- إما النفور التام من روايات الأديب الروسي ورميها بعيدا، والاستغراب لهذا الإقبال الحالي الكبير على مؤلفاته (يتحدث البعض عن موضة “دوستويفسكي”، قد يكونون على حق، ولكن ليس بشكل دقيق، فرواياته تقرأ منذ نهايات القرن التاسع عشر إلى غاية يومنا هذا، وبنفس الحماس!)

2- أو التظاهر بالإعجاب و”تبني الأفكار والفلسفة العميقة” والتقاط الصور مع روايات دوستويفسكي وفناجين القهوة، أو نشر مقتطفات منها في الفيسبوك (وهذا هو المقصود الفعلي بالموضة)، رغم أن ملتقط الصورة أو ناشر المقولة لم يفهم شيئا بالأساس، وربما نفر في قرارة نفسه مما قرأ، لكنه مضطر لمسايرة “الموجة” حتى لا يتهمه بعض “المتحذلقين” و”أشباه المثقفين” بـ “السطحية” و”تدني المستوى الفكري”!

المسألة عزيزي القارئ أبسط بكثير مما تظن، ولا تتطلب سوى اتباع بعض النصائح والإرشادات السهلة التي ستمكنك من الغوص في أعماق أعمال تركت بصمتها في تاريخ الأدب العالمي.

– عندما يتعلق الأمر بالترجمة العربية لروايات فيودور دوستويفسكي، لن تجد أفضل من ترجمة الأديب والناقد والمترجم والديبلوماسي السوري الراحل سامي الدروبي، الذي كرس جانبا مهما من حياته لترجمة روائع الأدب الروسي، فلم يكتف بالأعمال الكاملة لدوستويفسكي فقط، بل تعداها إلى أعمال تولستوي وبوشكين وليرمنتوف وغيرهم، علما أنه ترجمها عن اللغة الفرنسية وليس من الروسية مباشرة كما يعتقد البعض.

– روايات دوستويفسكي أبعد ما تكون بطبيعة الحال عن “روايات السندويتش” التي تملأ رفوف المكتبات مؤخرا، فهي تتناول بالوصف الدقيق أوضاع روسيا القيصرية في الفترة التي عايشها الكاتب إبان القرن التاسع عشر، السرد مطول جدا، وقد يستغرق وصف حالة نفسية أو اجتماعية واحدة لإحدى شخصيات الرواية عشرين صفحة أو أكثر، وهذا ما يفسر النفور الطبيعي للقارئ المبتدئ مما يقرأ، مما يستدعي من الراغب في الاطلاع على أدب الروائي الروسي الراحل أقصى درجات التركيز والصبر الذي قد يساعده على استيعاب مجرى الأحداث وعمق الأفكار الفلسفية والتحليل النفسي الدقيق الذي تزخر به أعمال دوستويفسكي.

 التعامل مع أدب دوستويفسكي سهل للغاية ويعتمد على التدرج:
البداية بقراءة الأعمال القصصية والروايات القصيرة التي أصدرها دوستويفسكي في بداية مشواره الأدبي وأبرزها: الليالي البيضاء، الفقراء، ونيتوتشكا نزفانوفا.

يمكنك اعتبار الأعمال المذكورة كمقدمة للتعود على أسلوب دوستويفسكي وسرده المطول، ما سيمكنك من قراءة رواياته المتوسطة وأبرزها: في قبوي، مذلون مهانون والمقامر. وهكذا ستجد نفسك على أتم الاستعداد لسبر أغوار روايات دوستويفسكي العملاقة والمشهورة كالأبله، الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف آخر رواياته وأضخمها، والتي قدم فيها الأديب الروسي عصارة تجاربه، ولم يعش بعد كتابتها طويلا.

– نقطة أخيرة لكنها مهمة جدا: صحيح أن فيودور ترك بصمته الواضحة في الأدب العالمي، لكن من الخطأ اختصار الأدب الروسي في دوستويفسكي وحده، ابحث عن “الحرب والسلم” و”الحاج مراد” لليو تولستوي، “بطل من هذا الزمان” لميخائيل ليرمنتوف، “ابنة الضابط” لألكسندر بوشكين، وغيرها، وأنا متأكد عزيزي القارئ من أنك ستخرج منها باستنتاج واحد: “لا أحد يكتب مثل الروس..”

Recommended2 إعجاباننشرت في مقالات

قد يعجبك أيضاً

لُغتُنا.. هُويّتُنا

المقدّمةُ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ الّذي نزّلَ القرآنَ العظيمَ هدىً ورحمةً للعالمينَ، وخصّهُ بلغةٍ بالمعاني تَتَعالى، وبالألفاظِ تتَباهَى، وبالبلاغةِ تتَهادَى، جلِيـلةً في قَدْرِها، عظيمةً في…

تعليقات