وفى لي فيك الدمع إذ خانني الصبر

ديوان صفي الدين الحلي

وَفى لِيَ فيكَ الدَمعُ إِذ خانَني الصَبرُ

وَأَنجَدَ فيكَ النَظمُ إِذ خُذِلَ النَصرُ

وَأَضحَت تَقولُ الناسُ وَالدِستُ وَالعُلى

كَذا فَليَجَلُّ الخَطبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ

تُوُفِّيَتِ الآمالُ بَعدَ مُحَمَّدٍ

وَأَصبَحَ في شُغلٍ عَنِ السَفَرِ السَفرُ

وَزالَت حَصاةُ الحِلمِ عَن مُستَقَرِّها

وَأَصبَحَ كَالخَنساءِ في قَلبِهِ صَخرُ

وَساوى قُلوبَ الناسِ في الحُزنِ رُزؤُهُ

كَأَنَّ صُدورَ الناسِ في حُزنِها صَدرُ

فَإِن أَظلَمَت أَرضُ الشَآمِ لِحُزنِهِ

فَلَم يَخلُ مِن ذاكَ الصَعيدُ وَلا مِصرُ

قَضى الناصِرُ السُلطانُ مِن بَعدِ ما قَضى

فُروضَ العُلى طُرّاً وَسالَمَهُ الدَهرُ

وَلَم يُغنِ عَنهُ الجَأشُ وَالجَيشُ وَاللُهى

وَفَرطُ النُهى وَالحُكمُ وَالنَهيُ وَالأَمرُ

وَلا الخَيلُ تَجري بَينَ آذانِها القَنا

لِحَربِ العِدى وَالدُهمُ مِن دَمِهِم حُمرُ

لَدى مَعرَكٍ خاضَت بِهِ الخَيلُ في الوَغى

مِنَ الدَمِ فيما خاضَتِ البيضُ وَالسُمرُ

كَأَن لَم يَقُدها في الهِياجِ عَوابِساً

بِكُلِّ كَميٍّ ضَمَّ في قَلبِهِ الصَدرُ

وَلَم تَرجِعِ البيضُ الصِفاحُ مِنَ العِدى

مُخَضَّبَةً وَالبَرُّ مِن دَمِهِم بَحرُ

وَلَم يَترُكِ الأَبطالَ صَرعى وَغِسلُها

دَماها وَأَحشاءُ النُسورِ لَها قَبرُ

وَلا صَنَعَت فيها ظُباهُ مَآدِباً

فَأَصبَحَ مِن أَضيافِهِ الذِئبُ وَالنَسرُ

وَلا أَخَذَت مِنهُ المُلوكُ لِسِلمِهِ

زِمامَ الرِضى مِمّا يُقَلقِلُها الذُعرُ

وَلا مُهِّدَ الإِسلامُ عِندَ اِضطِرابِهِ

فَأَصبَحَ مَشدوداً بِهِ ذَلِكَ الأَزرُ

وَلا قَلَّدَ الأَعناقَ مِن فَيضِ جودِهِ

قَلائِدَ بِرٍّ لا يَقومُ بِها الشُكرُ

وَلا جَبَرَت كَفّاهُ في كُلِّ بَلدَةٍ

كَبيرَ كِرامٍ ما لِكَسرِهِمُ جَبرُ

أَلا في سَبيلِ المَجدِ مُهجَةُ ماجِدٍ

يُشارِكُنا في حُزنِهِ المَجدُ وَالفَخرُ

كَريمٌ أَفادَ الدَهرُ مِنهُ خَلائِقاً

فَأَيّامُهُ مِنهُ مُحَجَّلَةٌ غُرُّ

يَروعُ جُيوشَ الحادِثاتِ يَراعُهُ

وَيُفني الأَعادي قَبلَ أَسيافِهِ الذِكرُ

إِلى بابِهِ تَسعى المُلوكُ فَإِن عَدَت

تَعَدّى إِلَيها القَتلُ وَالنَهبُ وَالأَسرُ

لَقَد شَهِدَت أَهلُ المَمالِكِ أَنَّهُ

مَليكٌ لَهُ مِن فَوقِ قَدرِهِمُ قَدرُ

قَوِيٌّ إِذا لانوا سَريعٌ إِذا وَنوا

صَؤولٌ إِذا كَرّوا ثَبوتٌ إِذا فَرّوا

كَأَنَّ أَديمَ الأَرضِ قُدَّ مِنِ اِسمِهِ

فَما وُجِدَت إِلّا وَفيها لَهُ ذِكرُ

يَجولُ ثَناهُ في البِلادِ كَأَنَّهُ

وِشاحٌ وَمَجموعُ البِقاعِ لَهُ خَصرُ

وَما كانَ يَدري مَن تَيَمَّمَ جودَهُ

وَنَكَّبَ لُجَّ البَحرِ أَيَّهُما البَحرُ

مَفاتِحُ أَرزاقِ العِبادِ بِكَفِّهِ

فَيُمنى بِها يُمنٌ وَيُسرى بِها يُسرُ

فَتىً كانَ مِثلَ الدَهرِ بَطشاً وَبَسطَةً

يُرَجّى وَيُخشى عِندَهُ النَفعُ وَالضُرُّ

فَتىً طَبَّقَ الأَرضَ البَسيطَةَ جودُهُ

فَفي كُلِّ قُطرٍ مِن نَداهُ بِها قَطرُ

فَتىً لَفظُهُ مَع رَأيِهِ وَنَوالِهِ

يَجيءُ اِرتِجالاً لا يُغَلغِلُهُ الفِكرُ

فَتىً لَم تُرَنِّح نَشوَةُ الكِبرِ عِطفَهُ

وَمِن بَعضِ ما قَد نالَهُ يَحدُثُ الكِبرُ

فَتىً يَكرَهُ التَقصيرَ حَتّى تَظُنَّهُ

يَكونُ حَراماً عِندَهُ الجَمعُ وَالقَصرُ

فَتىً لَم يَدَع في مُهجَةِ المَجدِ حَسرَةً

مَدى الدَهرِ إِلّا أَن يَطولَ لَهُ العُمرُ

فَتىً ذَخَرَ الحُسنى فَأَعقَبَ فِعلُهُ

عَواقِبَهُ الحُسنى فَقَد نَفَعَ الذُخرُ

تَقاصَرَتِ الأَشعارُ عَن وَصفِ رُزئِهِ

لَقَد جَلَّ حَتّى دَقَّ عَن وَصفِهِ الشِعرُ

طَواهُ الثَرى مِن بَعدِ ما شَرُفَ الثَرى

بِوَطأَتِهِ وَالتَختُ وَالدِستُ وَالقَصرُ

وَلَم نَرَ بَدراً قَبلَهُ غابَ في الثَرى

وَلَم نَرَ طَوداً قَبلَهُ ضَمَّهُ القَبرُ

وَقَد كانَ بَطنُ الأَرضِ يَغبِطُ ظَهرَها

عَلَيهِ فَأَمسى البَطنُ يَحسُدُهُ الظَهرُ

أَحاطَ بِهِ الآسونَ يَبغونَ طِبَّهُ

وَقَد حارَتِ الأَفهامُ وَاِشتَغَلَ السِرُّ

وَراموا بِأَنواعِ العَقاقيرِ بُرأَهُ

وَهَل يُصلِحُ العَطّارُ ما أَفسَدَ الدَهرُ

وَكَيفَ يَرُدُّ الطِبُّ أَمراً مُقَدَّراً

إِذا كانَ ذاكَ الأَمرُ مِمَّن لَهُ الأَمرُ

وَمِمّا يُسَلّي النَفسَ حُسنُ اِنتِقالِهِ

عَفيفَ إِزارٍ لا يُناطُ بِهِ وِزرُ

وَإِنَّ لَنا مِن بَعدِهِ مِن سَليلِهِ

مَليكاً بِهِ عَن فَقدِهِ يَحسُنُ الصَبرُ

فَإِن غابَ ذاكَ البَدرُ عَن أُفقِ مُلكِهِ

فَقَد أَشرَقَت مِن نَجلِهِ أَنجُمٌ زُهرُ

وَسَرَّ العُلى ما أَسمَعَ الناسَ عَنهُمُ

وَقالَ الوَرى قَد صَدَّقَ الخَبَرَ الخُبرُ

فَإِن فَلَّتِ الأَيّامُ حَدَّ مُحَمَّدٍ

فَقَد جَرَّدَت سَيفاً بِهِ يُدرَكُ الوِترُ

وَإِن أَحدَثَت بِالناصِرِ المَلكِ زَلَّةً

فَبِالمَلِكِ المَنصورِ قامَ لَها العُذرُ

فَيا دَوحَةَ المَجدِ الَّذي عِندَما ذَوَت

سَمَت وَنَمَت في المَجدِ أَغصانُها الخُضرُ

لَكَ اللَهُ كَم قَلَّدتَنا طَوقَ مِنَّةِ

فَتِلكَ كَعَدَّ القَطرِ لَيسَ لَهُ حَصرُ

لَقَد عَزَّ فينا بَعدَ وُجدانِكَ الغِنى

كَما ذَلَّ فينا قَبلَ فِقدانِكَ الفَقرُ

تَرَتَّبَتِ الأَحزانُ فيكَ مَراتِباً

بِقَلبي وَرَقمُ الصَبرِ مِن بَينِها صِفرُ

وَلَمّا نَظَمتُ الشِعرَ فيكَ قَلائِداً

تَمَنَّت نُجومُ اللَيلِ لَو أَنَّها شِعرُ

سَأَبكيكَ بِالأَشعارِ حَتّى إِذا وَهَت

سُلوكُ عُقودِ النَظمِ أَنجَدَني النَثرُ

عَليكَ سَلامُ اللَهِ ما ذُكِرَ اِسمُكُم

وَذَلِكَ بَينَ الناسِ آخِرُهُ الحَشرُ

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان صفي الدين الحلي، شعراء العصر المملوكي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

تعليقات