حاشى الرقيب فخانته ضمائره

ديوان أبو الطيب المتنبي

حاشى الرَقيبَ فَخانَتهُ ضَمائِرُهُ

وَغَيَّضَ الدَمعَ فَاِنهَلَّت بَوادِرُهُ

وَكاتِمُ الحُبِّ يَومَ البَينِ مُنهَتِكٌ

وَصاحِبُ الدَمعِ لا تَخفى سَرائِرُهُ

لَولا ظِباءُ عَدِيٍّ ما شُغِفتُ بِهِم

وَلا بِرَبرَبِهِم لَولا جَآذِرُهُ

مِن كُلِّ أَحوَرَ في أَنيابِهِ شَنَبٌ

خَمرٌ يُخامِرُها مِسكٌ تُخامِرُهُ

نَعجٌ مَحاجِرُهُ دُعجٌ نَواظِرُهُ

حُمرٌ غَفائِرُهُ سودٌ غَدائِرُهُ

أَعارَني سُقمَ عَينَيهِ وَحَمَّلَني

مِنَ الهَوى ثِقلَ ما تَحوي مَآزِرُهُ

يا مَن تَحَكَّمَ في نَفسي فَعَذَّبَني

وَمَن فُؤادي عَلى قَتلي يُضافِرُهُ

بِعَودَةِ الدَولَةِ الغَرّاءِ ثانِيَةً

سَلَوتُ عَنكَ وَنامَ اللَيلَ ساهِرُهُ

مِن بَعدِ ما كانَ لَيلي لا صَباحَ لَهُ

كَأَنَّ أَوَّلَ يَومِ الحَشرِ آخِرُهُ

غابَ الأَميرُ فَغابَ الخَيرُ عَن بَلَدٍ

كادَت لِفَقدِ اِسمِهِ تَبكي مَنابِرُهُ

قَدِ اِشتَكَت وَحشَةَ الأَحياءِ أَربُعُهُ

وَخَبَّرَت عَن أَسى المَوتى مَقابِرُهُ

حَتّى إِذا عُقِدَت فيهِ القِبابُ لَهُ

أَهَلَّ لِلَّهِ باديهِ وَحاضِرُهُ

وَجَدَّدَت فَرَحاً لا الغَمُّ يَطرُدُهُ

وَلا الصَبابَةُ في قَلبٍ تُجاوِرُهُ

إِذا خَلَت مِنكَ حِمصٌ لا خَلَت أَبَداً

فَلا سَقاها مِنَ الوَسمِيِّ باكِرُهُ

دَخَلتَها وَشُعاعُ الشَمسِ مُتَّقِدُ

وَنورُ وَجهِكَ بَينَ الخَلقِ باهِرُهُ

في فَيلَقٍ مِن حَديدٍ لَو قَذَفتَ بِهِ

صَرفَ الزَمانِ لَما دارَت دَوائِرُهُ

تَمضي المَواكِبُ وَالأَبصارُ شاخِصَةٌ

مِنها إِلى المَلِكِ المَيمونِ طائِرُهُ

قَد حِرنَ في بَشَرٍ في تاجِهِ قَمَرٌ

في دِرعِهِ أَسَدٌ تَدمى أَظافِرُهُ

حُلو خَلائِقُهُ شوسٍ حَقائِقُهُ

تُحصى الحَصى قَبلَ أَن تُحصى مَآثِرُهُ

تَضيقُ عَن جَيشِهِ الدُنيا وَلَو رَحُبَت

كَصَدرِهِ لَم تَبِن فيها عَساكِرُهُ

إِذا تَغَلغَلَ فِكرُ المَرءِ في طَرَفٍ

مِن مَجدِهِ غَرِقَت فيهِ خَواطِرُهُ

تَحمى السُيوفُ عَلى أَعدائِهِ مَعَهُ

كَأَنَّهُنَّ بَنوهُ أَو عَشائِرُهُ

إِذا اِنتَضاها لِحَربٍ لَم تَدَع جَسَداً

إِلّا وَباطِنُهُ لِلعَينِ ظاهِرُهُ

فَقَد تَيَقَّنَ أَنَّ الحَقَّ في يَدِهِ

وَقَد وَثِقنَ بِأَنَّ اللَهَ ناصِرُهُ

تَرَكنَ هامَ بَني عَوفٍ وَثَعلَبَةٍ

عَلى رُؤوسٍ بِلا ناسٍ مَغافِرُهُ

فَخاضَ بِالسَيفِ بَحرَ المَوتِ خَلفَهُمُ

وَكانَ مِنهُ إِلى الكَعبَينِ زاخِرُهُ

حَتّى اِنتَهى الفَرَسُ الجاري وَما وَقَعَت

في الأَرضِ مِن جُثَثِ القَتلى حَوافِرُهُ

كَم مِن دَمٍ رَوِيَت مِنهُ أَسِنَّتُهُ

وَمُهجَةٍ وَلَغَت فيها بَواتِرُهُ

وَحائِنٍ لَعِبَت سُمرُ الرِماحِ بِهِ

فَالعَيشُ هاجِرُهُ وَالنَسرُ زائِرُهُ

مَن قالَ لَستَ بِخَيرِ الناسِ كُلِّهِمِ

فَجَهلُهُ بِكَ عِندَ الناسِ عاذِرُهُ

أَو شَكَّ أَنَّكَ فَردٌ في زَمانِهِمِ

بِلا نَظيرٍ فَفي روحي أُخاطِرُهُ

يا مَن أَلوذُ بِهِ فيما أُؤَمِّلُهُ

وَمَن أَعوذُ بِهِ مِمّا أُحاذِرُهُ

وَمَن تَوَهَّمتُ أَنَّ البَحرَ راحَتُهُ

جوداً وَأَنَّ عَطاياهُ جَواهِرُهُ

لا يَجبُرُ الناسُ عَظماً أَنتَ كاسِرُهُ

وَلا يَهيضونَ عَظماً أَنتَ جابِرُهُ

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان المتنبي، شعراء العصر العباسي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات