تذكرت ما بين العذيب وبارق

ديوان أبو الطيب المتنبي

تَذَكَّرتُ ما بَينَ العُذَيبِ وَبارِقِ

مَجَرَّ عَوالينا وَمَجرى السَوابِقِ

وَصُحبَةَ قَومٍ يَذبَحونَ قَنيصَهُم

بِفَضلَةِ ما قَد كَسَّروا في المَفارِقِ

وَلَيلاً تَوَسَّدنا الثَوِيَّةَ تَحتَهُ

كَأَنَّ ثَراها عَنبَرٌ في المَرافِقِ

بِلادٌ إِذا زارَ الحِسانَ بِغَيرِها

حَصا تُربِها ثَقَّبنَهُ لِلمَخانِقِ

سَقَتني بِها القُطرُبُّلِيَّ مَليحَةٌ

عَلى كاذِبٍ مِن وَعدِها ضَوءُ صادِقِ

سُهادٌ لِأَجفانٍ وَشَمسٌ لِناظِرٍ

وَسُقمٌ لِأَبدانٍ وَمِسكٌ لِناشِقِ

وَأَغيَدُ يَهوى نَفسَهُ كُلُّ عاقِلٍ

عَفيفٍ وَيَهوى جِسمَهُ كُلُّ فاسِقِ

أَديبٌ إِذا ما جَسَّ أَوتارَ مِزهَرٍ

بَلا كُلَّ سَمعٍ عَن سِواها بِعائِقِ

يُحَدِّثُ عَمّا بَينَ عادٍ وَبَينَهُ

وَصُدغاهُ في خَدَّي غُلامٍ مُراهِقِ

وَما الحُسنُ في وَجهِ الفَتى شَرَفاً لَهُ

إِذا لَم يَكُن في فِعلِهِ وَالخَلائِقِ

وَما بَلَدُ الإِنسانِ غَيرُ المُوافِقِ

وَلا أَهلُهُ الأَدنَونَ غَيرُ الأَصادِقِ

وَجائِزَةٌ دَعوى المَحَبَّةِ وَالهَوى

وَإِن كانَ لا يَخفى كَلامُ المُنافِقِ

بِرَأيِ مَنِ اِنقادَت عُقَيلٌ إِلى الرَدى

وَإِشماتِ مَخلوقٍ وَإِسخاطِ خالِقِ

أَرادوا عَلِيّاً بِالَّذي يُعجِزُ الوَرى

وَيوسِعُ قَتلَ الجَحفَلِ المُتَضايِقِ

فَما بَسَطوا كَفّاً إِلى غَيرِ قاطِعٍ

وَلا حَمَلوا رَأساً إِلى غَيرِ فالِقِ

لَقَد أَقدَموا لَو صادَفوا غَيرَ آخِذٍ

وَقَد هَرَبوا لَو صادَفوا غَيرَ لاحِقِ

وَلَمّا كَسا كَعباً ثِياباً طَغَوا بِها

رَمى كُلَّ ثَوبٍ مِن سِنانٍ بِخارِقِ

وَلَمّا سَقى الغَيثَ الَّذي كَفَروا بِهِ

سَقى غَيرَهُ في غَيرِ تِلكَ البَوارِقِ

وَما يوجِعُ الحِرمانُ مِن كَفِّ حارِمٍ

كَما يوجِعُ الحِرمانُ مِن كَفِّ رازِقِ

أَتاهُم بِها حَشوَ العَجاجَةِ وَالقَنا

سَنابِكُها تَحشو بُطونَ الحَمالِقِ

عَوابِسَ حَلّى يابِسُ الماءِ حُزمَها

فَهُنَّ عَلى أَوساطِها كَالمَناطِقِ

فَلَيتَ أَبا الهَيجا يَرى خَلفَ تَدمُرٍ

طِوالَ العَوالي في طِوالِ السَمالِقِ

وَسَوقَ عَليٍّ مِن مَعَدٍّ وَغَيرِها

قَبائِلَ لا تُعطي القُفِيَّ لِسائِقِ

قُشَيرٌ وَبَلعَجلانِ فيها خَفِيَّةٌ

كَراءَينِ في أَلفاظِ أَلثَغَ ناطِقِ

تُخَلِّيهِمِ النِسوانُ غَيرَ فَوارِكٍ

وَهُم خَلَّوِ النِسوانَ غَيرَ طَوالِقِ

يُفَرِّقُ ما بَينَ الكُماةِ وَبَينَها

بِضَربٍ يُسَلّي حَرُّهُ كُلَّ عاشِقِ

أَتى الظُعنَ حَتّى ما تَطيرُ رَشاشَةٌ

مِنَ الخَيلِ إِلّا في نُحورِ العَواتِقِ

بِكُلِّ فَلاةٍ تُنكِرُ الإِنسَ أَرضُها

ظَعائِنُ حُمرُ الحَليِ حُمرُ الأَيانِقِ

وَمَلمومَةٌ سَيفِيَّةٌ رَبَعِيَّةٌ

يَصيحُ الحَصى فيها صِياحَ اللَقالِقِ

بَعيدَةُ أَطرافِ القَنا مِن أُصولِهِ

قَريبَةُ بَينَ البيضِ غُبرُ اليَلامِقِ

نَهاها وَأَغناها عَنِ النَهبِ جودُهُ

فَما تَبتَغي إِلّا حُماةَ الحَقائِقِ

تَوَهَّمَها الأَعرابُ سَورَةَ مُترَفٍ

تُذَكِّرُهُ البَيداءُ ظِلَّ السُرادِقِ

فَذَكَّرتَهُم بِالماءِ ساعَةَ غَبَّرَت

سَماوَةُ كَلبٍ في أُنوفِ الحَزائِقِ

وَكانوا يَروعونَ المُلوكَ بِأَن بَدَوا

وَأَن نَبَتَت في الماءِ نَبتَ الغَلافِقِ

فَهاجوكَ أَهدى في الفَلا مِن نُجومِهِ

وَأَبدى بُيوتاً مِن أَداحي النَقانِقِ

وَأَصبَرَ عَن أَمواهِهِ مِن ضِبابِهِ

وَآلَفَ مِنها مُقلَةً لِلوَدائِقِ

وَكانَ هَديراً مِن فُحولٍ تَرَكتَها

مُهَلَّبَةَ الأَذنابِ خُرسَ الشَقاشِقِ

فَما حَرَموا بِالرَكضِ خَيلَكَ راحَةً

وَلَكِن كَفاها البَرُّ قَطعَ الشَواهِقِ

وَلا شَغَلوا صُمَّ القَنا بِقُلوبِهِم

عَنِ الرِكزِ لَكِن عَن قُلوبِ الدَماسِقِ

أَلَم يَحذَروا مَسخَ الَّذي يَمسَخُ العِدا

وَيَجعَلُ أَيدي الأُسدِ أَيدي الخَرانِقِ

وَقَد عايَنوهُ في سِواهُم وَرُبَّما

أَرى مارِقاً في الحَربِ مَصرَعَ مارِقِ

تَعَوَّدَ أَن لا تَقضَمَ الحَبَّ خَيلُهُ

إِذا الهامُ لَم تَرفَع جُنوبَ العَلائِقِ

وَلا تَرِدَ الغُدرانَ إِلّا وَماؤُها

مِنَ الدَمِ كَالرَيحانِ تَحتَ الشَقائِقِ

لَوَفدُ نُمَيرٍ كانَ أَرشَدَ مِنهُمُ

وَقَد طَرَدوا الأَظعانَ طَردَ الوَسائِقِ

أَعَدّوا رِماحاً مِن خُضوعٍ فَطاعَنوا

بِها الجَيشَ حَتّى رَدَّ غَربَ الفَيالِقِ

فَلَم أَرَ أَرمى مِنهُ غَيرَ مُخاتِلٍ

وَأَسرى إِلى الأَعداءِ غَيرَ مُسارِقِ

تُصيبُ المَجانيقُ العِظامُ بِكَفِّهِ

دَقائِقَ قَد أَعيَت قِسِيَّ البَنادِقِ

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان المتنبي، شعراء العصر العباسي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

تعليقات