بكيت فلم تترك لعينك مدمعا

ديوان ابن الرومي

بكيتَ فلم تترك لعينك مدمعا

زماناً طوى شرخ الشباب فودَّعا

سقى الله أوطاراً لنا ومآرباً

تقطَّع من أقرانها ما تقطعا

لياليَ تنسيني الليالي حسابها

بُلَهنِيَةٌ أقضي بها الحول أجمعا

سدى غِرَّةٍ لا أعرف اليوم باسمه

وأعمل فيه اللهو مرأىً ومسمعا

إذا ما قضيت اليوم لم أبك عهده

وأخلفت أدنى منه ظلّاً وأفنعا

فأصبحت أقتص العهود التي خلت

بآهة محقوق بأن يتفجَّعا

أحن فأستسقي لها الغيث مرة

وأثني فأستسقي لها العين أدمعا

لأحسنت الأيام بيني وبينها

بديئاً وإن عفت على ذاك مرجعا

أعاذل إن أُعطِ الزمانَ عنانَهُ

فقد كنت أثني منه رأساً وأخدعا

ليالي لو نازعته رجع أمسه

ثنى جيده طوعاً إلي ليرجعا

وقد أغتدي للطير والطير هجَّعٌ

ولو أوجست مغداي ما بتن هجَّعا

بِخِلَّيْنِ تمَّا بي ثلاثةَ إخوةٍ

جسومهم شتى وأرواحهم معا

بني خلَّةٍ لم يفسد المحل بينهم

ولا طمع الواشون في ذاك مطمعا

مطيعين أهواءً توافت على هوى

فلو أُرسلت كالنبل لم تعدُ موقعا

تُجلِّي عيون الناظرين فُجاءةً

لنا منظراً مُروىً من الحسن مُشبعا

إذا ما رَفَعنا مقبلين لمجلسٍ

طلعنا جميعاً لا نغادر مطلعا

كمنطقة الجوزاء لاحت بسحرة

بعقب غمام لائح ثم أقشعا

إذا ما دعا منه خليل خليله

بأفديك لباه مجيباً فأسرعا

وإن هو ناداه سحيراً لدُلْجَةٍ

تنبَّه نبهان الفؤاد سرعرعا

كأن له في كل عضوٍ ومفصلٍ

وجارحة قلباً من الجمر أصمعا

فشمر للإدلاج حتى كأنما

تلُفُّ به الأرواح سمعاً سمعمعا

كأنيَ ما روَّحت صحبي عشيَّةً

نساجل مخضرَّ الجنابين مُترعا

إذا رنَّقت شمسُ الأصيل ونفَّضت

على الأفق الغربيِّ ورساً مذعذعا

وودَّعت الدنيا لتقضي نحبَها

وشَوَّل باقي عمرها فتشعشعا

ولاحظت النوّار وهي مريضة

وقد وضعت خدّاً إلى الأرض أضرعا

كما لاحظت عوادَه عينُ مُدنفٍ

توجَّع من أوصابه ما توجعا

وظلت عيون النور تخضل بالندى

كما اغرورقت عين الشجيِّ لتدمعا

يراعينها صوْراً إليها روانياً

ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشَّعا

وبيَّنَ إغضاءُ الفراق عليهما

كأنهما خلّا صفاءٍ تودَّعا

وقد ضربت في خضرة الروض صُفرةٌ

من الشمس فاخضر اخضراراً مشعشعا

وأذكى نسيمَ الروض ريعانُ ظلِّه

وغنى مغني الطير فيه فسجَّعا

وغرَّد رِبعيُّ الذباب خلاله

كما حَثحَث النشوانُ صنجاً مُشرَّعا

فكانت أرانينُ الذباب هناكمُ

على شدوات الطير ضرباً موقَّعا

وفاضت أحاديث الفكاهات بيننا

كأحسن ما فاض الحديث وأمتعا

كأن جفوني لم تبت ذات ليلة

كراها قذاها لا تلائم مضجعا

كأنِّيَ ما نبَّهت صحبي لشأنهم

إذا ما ابن آوى آخر الليل وعوعا

فثاروا إلى آلاتهم فتقلدوا

خرائط حمراً تحمل السمَّ مُنقَعا

منمَّقةً ما استودع القوم مثلها

ودائعَهم إلا لكي لا تُضَيَّعا

محملة زاداً خفيفاً مناطُهُ

من البندق الموزون قل وأقنعا

نكيرٌ لئن كانت ودائع مثلها

حقائبَ أمثالي ويذهبن ضُيَّعا

علام إذاً توهي الحمالة عاتقي

وكان مصوناً أن يُذال مودَّعا

وما جشمتني الطير ما أنا جاشمٌ

بأسبابها إلا ليجشمن مُضلِعا

فلله عينا من رآهم وقد غدوا

مُزيِّين مشهوراً من الزِّيِّ أروعا

إذا نبضوا أوتارهم فتجاوبت

لها ذمراتٌ تصرعُ الطير خَولعا

كأنَّ دويَّ النحل أخرى دويِّها

إذا ما حفيف الريح أوعاه مسمعا

هنالك تغدو الطير ترتاد مصرعاً

وحسبانُها المكذوب يرتاد مرتعا

ولله عينا من رآهم إذا انتهوا

إلى موقف المرمى فأقبلن نُزَّعا

وقد وقفوا للحائنات وشمَّروا

لهنَّ إلى الأنصاف سوقاً وأذرعا

وظلوا كأن الريح تزفي عليهمُ

بها قزعاً ملء السماء مقزَّعا

وقد أغلقوا عقد الثلاثين منهمُ

بمجدولة الأقفاء جدلاً موشَّعا

وجدَّت قسيُّ القوم في الطير جدَّها

فظلت سجوداً للرماة وركَّعا

هنالك تلقى الطير ما طيَّرت به

على كل شعب جامع فتصدَّعا

وتُعقَب بالبين الذي برَّحت به

لكل محب كان منها مروَّعا

فظل صحابي ناعمين ببؤسها

وظلت على حوض المنية شُرَّعا

فلو أبصرت عيناك يوماً مقامنا

رأيت له من حلة الطير أمرعا

طرائح من سودٍ وبيضٍ نواصعٍ

تخال أديم الأرض منهن أبقعا

نؤلف منها بين شتّى وإنما

نشتت من ألّافها ما تجمعا

فكم ظاعن منهن مزمع رحلةٍ

قصرنا نواه دون ما كان أزمعا

وكم قادم منهن مرتادِ منزلٍ

أناخ به منا منيخٌ فجعجعا

كأن لباب التبر عند انتضائها

جرى ماؤه في ليطها فترَيَّعا

تراك إذا ألقيت عنها صبيانَها

سفرت به عن وجه عذراء برقعا

كأن قراها والفروز التي به

وإن لم تجدها العين إلا تتبعا

مَزَرُّ سحيقِ الورس فوق صلاءةٍ

أدبَّ عليها دارجُ الذرِّ أكرعا

لها أوَّلٌ طوع اليدين وآخرٌ

إذا سمته الإغراق فيها تمنَّعا

تدين لمقرونٍ أمرَّت مريرَهُ

عجوزٌ صناعٌ لم تدع فيه مَصنَعا

تأيَّت صميم المتن حتى إذا انتهى

رضاها أمرَّته مرائرَ أربعا

تلَذُّ قرينيه عقودٌ كأنها

رؤوسُ مدارى ما أشدَّ وأوكعا

ولا عيب فيها غير أن نذيرها

يروع قلوبَ الطير حتى تَصعصعا

على أنها مكفولةُ الرزق ثَقفةٌ

وإن راع منها ما يروع وأفزعا

متاحٌ لراميها الرمايا كأنما

دعاها له داعي المنايا فأسمعا

تؤوب بها قد أمتعتك وغادرت

من الطير مفجوعاً به ومفجَّعا

لها عولةٌ أولى بها ما تُصيبُه

وأجدرُ بالإعوال من كان موجَعا

وما ذاك إلا زجرها لبناتها

مخافة أن يذهبن في الجوِّ ضُيَّعا

فيخرُجن حيناً حائناً ما انتحينَه

وإن تخذ التسبيحَ منهنَّ مَفزعا

تقلِّبُ نحو الطير عيناً بصيرة

كعينك بل أذكى ذكاء وأسرعا

مُرَبَّعَةٌ مقسومة بشباكها

كتمثال بيت الوشي حيك مربَّعا

لإبدائها في الجو عند طحيرها

عجاريف لو مرَّت بطودٍ تزعزعا

تقاذفُ عنها كلُّ ملساءَ حدرةٍ

تمرُّ مروراً بالقضاء مشيَّعا

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان ابن الرومي، شعراء العصر العباسي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات