ألم صبحا وجمر الحلي قد بردا

ديوان ناصح الدين الأرجاني

أَلَمّ صُبحاً وجَمْرُ الحَلْيِ قد بَرَدا

وقد بَدا يَخْطِفُ الأبصارَ مُتّقِدا

فهل رأَتْ قَطُّ عينٌ قبل رُؤْيتِه

جَمْراً به تَخْصَرُ الأيدي وما خَمَدا

وافَى شبيهَ خيالٍ منه مُستَرِقاً

وفي جفوني خَيالٌ منه قد وَفدا

واستَشخصَ الطّيفُ في عَيْني فقلتُ له

أَفي كرىً زائري أم يقظةٍ قَصدا

فقُمتُ للعينِ منّي ماسِحاً بيَدِي

ولاثماً منه رِجْلاً تارةً ويدا

مُغازِلاً لغزالٍ منه ذي غَيَدٍ

منه غَزالُ الفلاةِ استَوهَب الغَيدا

وِشاحُه حاسِدٌ في خَصْرِه هَيَفاً

والعِقْدُ في الجِيدِ منه يَحسُدُ الجَيدا

ذو عارِضٍ مُشرِقٍ يَفْتَرُّ عن بَرَدٍ

فَسمِّهِ إن أردتَ العارِض البَرَدا

مُضرَّجُ الخَدِّ إن قَرّبتَ مُقتَبِساً

من وجنَتَيْهِ سراجاً في الدُّجى وَقَدا

فقلتُ يا بدرُ ما هذا الطُّروقُ لنا

ولا طريقَ أرى إلاّ وقد رُصِدا

فكيف والحَيُّ أيقاظٌ مَررْتَ بهم

وما بدَوْتَ ونجمٌ لو سَرى لَبَدا

فقال في ليلِ أصداغي خَفِيتُ سُرىً

فكان مَن هَبَّ بالوادي كَمنْ هَجَرا

والحَيُّ قد أزمَعوا سَيْراً غداةَ غدٍ

كُلٌّ أعدَّ له عَيْرانةً أُجُدا

والعِيس أعناقُها شَطْرَ الحُداةِ لها

ميْلٌ كأنّك بالحادي بها وخَدا

وليس يَعْشَقُ طولَ اللّيلِ ذو كَلَفٍ

إلاّ إذا خَبَّروا أنّ الرّحيلَ غَدا

وقال هذا وَداعي فاستَعِرْ جَزعاً

من وَشْكِ فُرقتِنا أو فاستَعِرْ جَلَدا

وعاد كالنَّفَسِ المُرتَدِّ من سَرعٍ

والقومُ قد أخَذوا للرِّحلةِ العُدَدا

وَلَّى وفي الخَدِّ ما في العِقْدِ من دُرَرٍ

كأنّ ذائبَها في جِيدِه جَمَدا

وقامَ يَعثُر في أذيالِهِ دنِفٌ

للإلْفِ والقَلْبِ منه راح مُفْتَقِدا

صَبّ أقامَ وقد سارَتْ أحِبَّتُهُ

يُسامِرُ الهَمَّ طولَ اللّيلِ والسُّهُدا

وَلْهانَ يبكي بماءٍ أَحمرٍ أَسَفاً

كأنّما هو من آماقِه فُصِدا

قَتيلَ عينَيْهِ أو عَينَيْ مُنَعَّمةٍ

فليس يَعْلمُ مِمَّنْ يَطلُبُ القَودا

قد كنتُ أحسَبُ أنّي إن يَغِبْ سَكَني

يوماً أَمُتْ خجَلاً إن لم أَمُتْ كَمَدا

فقد تَدرَّبْتُ حتّى ما يُتَعْتِعُني

سُكْرُ الفِراقِ لِما قد راحَ بي وغَدا

فلستُ أخشَى عِثاراً في طريقِ نوىً

لأنّني منه أغدو سالِكاً جَددا

أمِنْتُ من فُرْقةِ الاُّلاّفِ غَيبْتَها

فمِنْ عزاءٍ كسَوْتُ الصّدْرَ لي زَرَدا

عندي منَ الدّهرِ مالو أنّ أَهْونَه

يَغْشى الثُّريّا رأوا مجموعَها بَدَدا

حَدٌّ يُكَلّفُني إقصاءهُ عُدَداً

ولستُ مُمتلِكاً إحصاءه عَدَدا

لو حَمَّلوا عِبْءَ قلبي مَتْنَ شاهقةٍ

صارتْ طرائقَ من أقطارِها قِدَدا

قلبٌ من الهَمّ ما يعلو له نَفَسٌ

كأنّما هو في أحشائهِ وُئدا

فالدّهرُ لولا بنوهُ وهو أقبَلَ في

جَيشِ الحوادثِ لم أَشعُرْ به أَبَدا

عَبِيدُ صَوْتٍ وسَوْطٍ يَملِكانِهمُ

لو أصبح البُخْلُ شَخصاً فيهمُ عُبِدا

يا مَنْ يظَلُّ خطيبُ القومِ يَجمَعُهم

حتّى إذا حَلَّ خطْبٌ كان مُنْفَرِدا

خُضْ وقعةَ الدّهرِ خَوضاً غيرَ هائبِها

فما غَنيمتُها إلاّ لمَنْ شَهِدا

كم تَقطَعُ العُمْرَ حِلْفاً للشّقاء كذا

وكم تُكابِدُ هَمّاً يَقْرَحُ الكَبِدا

وما السّعادةُ إلاّ مطْلَبٌ أمَمٌ

مَن قال أَسعَدُ مأْمولي فقد سَعِدا

شهابُ الشُّهْبُ مَرْآها له أَبَداً

من العُلُوِّ كمَرآنا لها بُعُدا

سُدٌّ لمملكةِ السّلطانِ فِكْرتُهُ

وماله منه سُدٌّ لا يُعَدُّ سُدى

إجالةُ الرّأيِ منه رايةٌ رفِعَتْ

وخَطّةُ السّطْرِ منه جَيشٌ احْتَشَدا

ليثُ الكتابةِ أو ليثُ الكتيبةِ مَن

طلبْتَ في بُرْدهِ لم تَعْدُ أن تَجِدا

ما بالْقَنا عَسَلانٌ في أكفِّهمُ

من خوفِ أقلامِه تُبدي القنا رِعَدا

متوِّجُ الكُتْبِ في طُغْرى يُنَمِّقُها

تاجاً به الكُتْبُ تَستَعْلِي إذا عُقِدا

قَوْساً وسَهْماً معاً يُمسى مَجازُهما

حقيقةً في حَشا المُخْفِي له حَسَدا

تَبْرِي أناملُه الأظفارَ من قَصَبٍ

مقوِّماً من قناةِ الدّولةِ الأَوَدا

لا غَرو إن صالَ في يُمْنَى يدي أَسَدٍ

ما ضَمّ غابُ اللّيالي مِثْلَهُ أَسَدا

لَعزَّما منه قد يُهدَي لأنمُلِه

مُشَجِّعٌ نبتُهُ في الغَيْضةِ الأَسَدا

له يَراعٌ يُراعُ الدّارعون له

يَثْني مُتون الأعادي والقَنا قِصَدا

وغُرُّ خَيلٍ عليها غُرُّ أغلِمةٍ

تَرْدِي فَتَرْدَى إذا ما مارِدٌ مَرُدا

زُهْرٌ إذا ركبوا كانوا نجومَ هُدىً

حتّى إذا غَضِبوا كانوا رُجومَ رَدى

ثَبْتٌ على الخيلِ في الهَيْجا وليدُهُم

كأنّه في سَراةِ الطِّرفِ قد وُلِدا

يا عاكفاً لم يَزْل قلبي بساحتهِ

إنْ كان شَخْصي دنا في الأرضِ أو بَعُدا

قد يَعلَمُ اللهُ مذْ فارقْتُ حضْرتَه

أنّ الولاءَ على العَهْدِ الّذي عَهِدا

لم تَلْبِسِ القُرْطَ أُذْني قَطُّ من كَلِمٍ

إلاّ إذا خَبرٌ من شَطْرِه وَرَدا

بأنّ عُقْبَى الّتي قد أقبلَتْ حُمِدتْ

وخيرُ عُقْبَى امرئ في الدّهرِ ما حُمِدا

وكيف لا أتمنّى عيشةً رغَداً

لمَنْ به صِرْتُ أُزجِي عيشةً رغَدا

كم قلتُ يا رب هَبْ طولَ البقاء لمَنْ

خلَقْتَه الروحَ معنىً والورى جَسَدا

أعِشْ لنا سالماً مَولىً نَعيشُ به

وأحْيِه هو بأْسا في الورى ونَدى

مَن لم أُجِلْ مُقلتي في مَنزلي نَظَراً

إلاّ أرى كُلَّ مالي بعضَ ما رفَدا

كم قلتُ للمَرْء يَلْقاني يُهنّئُني

لَمّا لَبِستُ جديداً وهْو منه جَدا

هو المُجدِّدُ ما أَفنَى مدى عُمُري

مَن قال أَبْلِ وجَدّدْ لم يقُلْ فَنَدا

فاللهُ للدّينِ والدُّنيا مُعَمِّرُه

عُمْرَ الزّمانِ جميعاً أو أَمَدَّ مَدى

وجاعِلُ الأولياءِ الطّائعين له

من الرّدى والأعادي الرّاغمين فِدى

قَوْمٌ تُناطُ بنَفْعِ النّاسِ همَتُه

ومَن بحقٍّ سَما لمّا سَما صُعُدا

دعِ القِرانَ لقومٍ يَحكمون به

إن كنتَ للحُكْمِ بالقُرآنِ مُعتَقدا

واقرأْ فقد ضَمِن اللهُ البقاءَ له

ومَنْ مِنَ اللهِ أَوفَى بالّذي وعدا

ما ينفَعُ النّاسَ يَبْقَى ماكثاً لهمُ

وذاهبٌ زائلٌ ما يَرتَقي زبَدا

فهاكَها فِقَراً كالرّوضِ مُبتَسماً

والعِقْدِ منتظماً والرُمْحِ مُطّرِدا

ما ضَرّ أن لم تكن سيّارةً شُهُباً

مادُمْتُ أَقرِضُها سَيّارةً شُرُدا

إن لم تكن شُهُباً في نَفْسِها طَلَعَتْ

ففي مَنِ الشهْبُ لا يَصعِدْن ما صَعِدا

شهابُ دينٍ يُسَرُّ النّاظرون به

إن يَكْتحِلْ بسَناهُ مَنْ غَوى رَشدا

نَوْءٌ وضَوءٌ إذا عايَنْتَ طَلْعتَه

فلِلورَى من مُحَيّاهُ ندىً وهُدى

حَبْرٌ متى أنفذَتْ في مَدْحِه عُصَبٌ

بضائعَ الفَضلِ يَردُدْها لهم جُدُدا

إذا استفادُوا لُهاً من عِنده اقْتَبسوا

نهىً تكون على شُكرِ اللُّها مَدَدا

يا مَن يَمُدُّ يَداً ما إن يَزالُ بها

مُطالِعاً في كتابٍ أو يُفيدُ نَدى

مُقسِّماً بين إحسانَيهِ ناظِرَهُ

ما إن يُرَى لائماً في عُمرِه أبَدا

لا تَحسبَنَّ خلودَ الدّهرِ مُمتَنِعاً

مَن ناط عُرْفاً بعِرفانٍ فقد خَلَدا

يُعايشُ الدّهرَ عيشاً لا انقضاءَ له

مَن يَقُرنُ الفَضلَ بالإفضالِ مُجتَهدا

الفِكُر والذِكُر لم يُثلِثْهُما شرفٌ

إذا اللّبيبُ على رُكنَيهما اعتَمَدا

بالفِكر في سِيَر الماضينَ تَحْسَبه

كأنّما عاش فيهم تِلكُم المُدَدا

والذّكْرُ في الأمَمِ الباقين يَجعلُه

كأنّه غيرُ مفقودٍ إذا فقِدا

وليس إلاّ على ذا الوجْهِ فاقتَنِه

مَعنىً يَصِحُّ لقَول النّاسِ عِشْ أبدا

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان الأرجاني، شعراء العصر الأندلسي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات