أبكيك لو نقع الغليل بكائي

ديوان الشريف الرضي

أَبكيكِ لَو نَقَعَ الغَليلَ بُكائي


وَأَقولُ لَو ذَهَبَ المَقالُ بِداءِ


وَأَعوذُ بِالصَبرِ الجَميلِ تَعَزِّياً


لَو كانَ بِالصَبرِ الجَميلِ عَزائي


طوراً تُكاثِرُني الدُموعُ وَتارَةً


آوي إِلى أَكرومَتي وَحَيائي


كَم عَبرَةٍ مَوَّهتُها بِأَنامِلي


وَسَتَرتُها مُتَجَمِّلاً بِرِدائي


أُبدي التَجَلُّدَ لِلعَدوِّ وَلَو دَرى


بِتَمَلمُلي لَقَد اِشتَفى أَعدائي


ما كُنتُ أُذخَرُ في فِداكَ رَغيبَةً


لَو كانَ يَرجِعُ مَيِّتٌ بِفِداءِ


لَو كانَ يُدفَعُ ذا الحِمامُ بِقوَّةٍ


لَتَكَدَّسَت عُصَبٌ وَراءَ لِوائي


بِمُدَرَّبينَ عَلى القِراعِ تَفَيَّأوا


ظِلَّ الرِماحِ لِكُلِّ يَومِ لِقاءِ


قَومٌ إِذا مَرِهوا بِأَغبابِ السُرى


كَحَلوا العُيونَ بِإِثمِدِ الظَلماءِ


يَمشونَ في حَلَقِ الدُروعِ كَأَنَّهُم


صُمُّ الجَلامِدِ في غَديرِ الماءِ


بِبُروقِ أَدراعٍ وَرَعدِ صَوارِمٍ


وَغَمامِ قَسطَلَةٍ وَوَبلِ دِماءِ


فارَقتُ فيكِ تَماسُكي وَتَجَمُّلي


وَنَسيتُ فيكَ تَعَزُّزي وَإِبائي


وَصَنَعتُ ما ثَلَمَ الوَقارَ صَنيعُهُ


مِمّا عَراني مِن جَوى البُرحاءِ


كَم زَفرَةٍ ضَعُفَت فَصارَت أَنَّةً


تَمَّمتُها بِتَنَفُّسِ الصُعَداءِ


لَهفانَ أَنزو في حَبائِلَ كُربَةٍ


مَلَكَت عَلَيَّ جَلادَتي وَغَنائي


وَجَرى الزَمانُ عَلى عَوائِدِ كَيدِهِ


في قَلبِ آمالي وَعَكسِ رَجائي


قَد كُنتُ آمُلُ أَن أَكونَ لَكِ الفِدا


مِمّا أَلَمَّ فَكُنتِ أَنتِ فِدائي


وَتَفَرُّقُ البُعداءِ بَعدَ مَوَدَّةٍ


صَعبٌ فَكَيفَ تَفَرُّقُ القُرَباءِ


وَخَلائِقُ الدُنيا خَلائِقُ مومِسٍ


لِلمَنعِ آوِنَةً وَلِلإِعطاءِ


طَوراً تُبادِلُكَ الصَفاءَ وَتارَةً


تَلقاكَ تُنكِرُها مِنَ البَغضاءِ


وَتَداوُلُ الأَيّامِ يُبلينا كَما


يُبلي الرَشاءَ تَطاوُحُ الأَرجاءِ


وَكَأَنَّ طولَ العُمرِ رَوحَةُ راكِبٍ


قَضّى اللُغوبَ وَجَدَّ في الإِسراءِ


أَنضَيتِ عَيشَكِ عِفَّةً وَزَهادَةً


وَطُرِحتِ مُثقَلَةً مِنَ الأَعباءِ


بِصِيامِ يَومِ القَيظِ تَلهَبُ شَمسُهُ


وَقِيامِ طولِ اللَيلَةِ اللَيلاءِ


ما كانَ يَوماً بِالغَبينِ مَنِ اِشتَرى


رَغدَ الجِنانِ بِعيشَةٍ خَشناءِ


لَو كانَ مِثلَكِ كُلُّ أُمٍّ بَرَّةٍ


غَنِيَ البَنونَ بِها عَنِ الآباءِ


كَيفَ السُلوُّ وَكُلُّ مَوقِعِ لَحظَة


أَثَرٌ لِفَضلِكِ خالِدٌ بِإِزاءِ


فَعَلاتُ مَعروفٍ تُقِرُّ نَواظِري


فَتَكونُ أَجلَتَ جالِبٍ لِبُكائي


ما ماتَ مَن نَزَعَ البَقاءَ وَذِكرُهُ


بِالصالِحاتِ يُعَدُّ في الأَحياءِ


فَبِأَيِّ كَفٍّ أَستَجِنُّ وَأَتَّقي


صَرفَ النَوائِبِ أَم بِأَيِّ دُعاءِ


وَمَنِ المُمَوِّلُ لي إِذا ضاقَت يَدي


وَمَنِ المُعَلِّلُ لي مِنَ الأَدواءِ


وَمَنِ الَّذي إِن ساوَرَتني نَكبَةٌ


كانَ المُوَقّى لي مِنَ الأَسواءِ


أَم مَن يَلِطُّ عَلَيَّ سِترَ دُعائِهِ


حَرَماً مِنَ البَأساءِ وَالضَرّاءِ


رُزآنِ يَزدادانِ طولَ تَجَدُّدٍ


أَبَدَ الزَمانِ فَناؤُها وَبَقائي


شَهِدَ الخَلائِقُ أَنَّها لَنَجيبَةٌ


بِدَليلِ مَن وَلَدَت مِنَ النُجَباءِ


في كُلِّ مُظلِمِ أَزمَةٍ أَو ضيقَةٍ


يَبدو لَها أَثَرُ اليَدِ البَيضاءِ


ذَخَرَت لَنا الذِكرَ الجَميلَ إِذا اِنقَضى


ما يَذخَرُ الآباءُ لِلأَبناءِ


قَد كُنتُ آمُلُ أَن يَكونَ أَمامَها


يَومي وَتُشفِقُ أَن تَكونَ وَرائي


كَم آمِرٍ لي بِالتَصَبُّرِ هاجَ لي


داءً وَقَدَّرَ أَنَّ ذاكَ دَوائي


آوي إِلى بَردِ الظِلالِ كَأنَّني


لِتَحَرُّقي آوي إِلى الرَمضاءِ


وَأَهُبُّ مِن طيبِ المَنامِ تَفَزُّعاً


فَزَعَ اللَديغِ نَبا عَنِ الإِغفاءِ


آباؤُكَ الغُرُّ الَّذين تَفَجَّرَت


بِهِمِ يَنابيعٌ مِنَ النَعماءِ


مِن ناصِرٍ لِلحَقِّ أَو راعٍ إِلى


سُبُلِ الهُدى أَو كاشِفِ الغَمّاءِ


نَزَلوا بِعَرعَرَةِ السَنامِ مِنَ العُلى


وَعَلَوا عَلى الأَثباجِ وَالأَمطاءِ


مِن كُلِّ مُستَبِقِ اليَدَينِ إِلى النَدى


وَمُسَدِّدِ الأَقوالِ وَالآراءِ


يُرجى عَلى النَظَرِ الحَديدِ تَكَرُّماً


وَيُخافُ في الإِطراقِ وَالإِغضاءِ


دَرَجوا عَلى أَثَرِ القُرونِ وَخَلَّفوا


طُرُقاً مُعَبَّدَةً مِنَ العَلياءِ


يا قَبرُ أَمنَحُهُ الهَوى وَأَوَدُّ لَو


نَزَفَت عَلَيهِ دُموعُ كُلِّ سَماءِ


لا زالَ مُرتَجِزُ الرعودِ مُجَلجِلٌ


هَزِجُ البَوارِقِ مُجلِبُ الضَوضاءِ


يَرغو رُغاءَ العودِ جَعجَعَهُ السُرى


وَيَنوءُ نَوءَ المُقرِبِ العُشَراءِ


يَقتادُ مُثقَلَةَ الغَمامِ كَأَنَّما


يَنهَضنَ بِالعَقَداتِ وَالأَنقاءِ


يَهفو بِها جِنحَ الدُجى وَيَسوقُها


سَوقَ البِطاءِ بِعاصِفٍ هَوجاءِ


يَرميكَ بارِقُها بِأَفلاذِ الحَيا


وَيَفُضُّ فيكَ لَطائِمَ الأَنداءِ


مُتَحَلِّياً عَذراءَ كُلِّ سَحابَةٍ


تَغذو الجَميمَ بِرَوضَةٍ عَذراءِ


لَلَؤُمتُ إِن لَم أَسقِها بِمَدامِعي


وَوَكَلتُ سُقياها إِلى الأَنواءِ


لَهفي عَلى القَومِ الأولى غادَرتُهُم


وَعَلَيهِمُ طَبَقٌ مِنَ البَيداءِ


مُتَوَسِّدينَ عَلى الخُدودِ كَأَنَّما


كَرَعوا عَلى ظَمَإٍ مِنَ الصَهباءِ


صُوَرٌ ضَنَنتُ عَلى العُيونِ بِلَحظِها


أَمسَيتُ أوقِرُها مِنَ البَوغاءِ


وَنَواظِرٌ كَحَلَ التُرابُ جُفونَها


قَد كُنتُ أَحرُسُها مِنَ الأَقذاءِ


قَرُبَت ضَرائِحُهُم عَلى زُوّارِها


وَنَأوا عَنِ الطُلّابِ أَيِّ تَنائي


وَلَبِئسَ ما تَلقى بِعُقرِ دِيارِهِم


أُذنُ المُصيخِ بِها وَعَينُ الرائي


وَمَعروفُكِ السامي أَنيسُكِ كُلَّما


وَرَدَ الظَلامُ بِوَحشَةِ الغَبراءِ


وَضِياءُ ما قَدَّمتِهِ مِن صالِحٍ


لَكِ في الدُجى بَدَلٌ مِنَ الأَضواءِ


إِنَّ الَّذي أَرضاهُ فِعلُكِ لا يَزَل


تُرضيكِ رَحمَتُهُ صَباحَ مَساءِ


صَلّى عَلَيكِ وَما فَقَدتِ صَلاتَهُ


قَبلَ الرَدى وَجَزاكِ أَيُّ جَزاءِ


لَو كانَ يُبلِغُكِ الصَفيحُ رَسائِلي


أَو كانَ يُسمِعُكِ التُرابُ نِدائي


لَسَمِعتِ طولَ تَأَوُّهي وَتَفَجُّعي


وَعَلِمتِ حُسنَ رِعايَتي وَوَفائي


كانَ اِرتِكاضي في حَشاكِ مُسَبِّباً


رَكضَ الغَليلِ عَلَيكِ في أَحشائي

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في ديوان الشريف الرضي، شعراء العصر العباسي، قصائد

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات