قصة كأني بالمجرّد قد علته نعال القوم أو خشب السواري

قصة كأني بالمجرّد قد علته نعال القوم أو خشب السواري

قال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: واللَّه لأحدثنك حديثا ما سمعه مني أحد قط، وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حيا. قلت: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها

قال: يا أبا محمد إنه حديث ما طنّ في أذنك أعجب منه! قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة؟ آخذه على ما أحببت!

قال: بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم، إذ أنا بامرأة من نساء مكة، معها صبي يبكي، وهي تسكته فيأبى أن يسكت، فسفرت، فأخرجت من فيها كسرة درهم فدفعتها إلى الصبيّ فسكت؛ فإذا وجه رقيق كأنه كوكب درّي، وإذا شكل رطب ولسان فصيح؛ فلما رأتني أحدّ النظر إليها، قالت: اتبعني! فقلت: إن شريطتي الحلال! قالت: ارجع في حرامك! ومن يريديك على حرام؟ فخجلت، وغلبتني نفسي على رأيي، فتبعتها، فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت: اصعد! فصعدت، فقالت: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم، وأنا امرأة من زهرة! ولكن عندي حر ضيّق، عليه وجه أحسن من العافية، في مثل خلق ابن سريج، وترنم معبد، وتيه ابن عائشة؛ أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأشقر سليم. قلت: وما أشقر سليم؟ قالت: بدينار واحد يومك وليلتك، فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجا صحيحا. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها، فاستجابت لها، قالت: قولي لفلانة: البسي عليك ثيابك وعجّلي، وباللَّه لا تمسّي غمرا ولا طيبا، فحسبك بدلالك وعطرك.

قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب أن الشمس وقعت عليها، كأنها دمية، فسلمت وقعدت كالخجلة.

فقالت: لها الأولى: إن هذا الذي ذكرته لك، وهو في هذه الهيئة التي ترين.

قالت: حيّاه اللَّه وقرّب داره. قالت: وقد بذل لك من الصداق دينارا. فقالت: أي أمّ، أخبرتيه بشريطتي؟ قالت: لا واللَّه يا بنية، لقد نسيتها. ثم نظرت إليّ فغمزتني وقالت: أتدري ما شريطتها؟ قلت: لا. قالت: أقول لك بحضورها ما إخالها تكرهه، هي واللَّه أفتك من عمرو بن معد يكرب، وأشجع من ربيعة بن مكدّم، ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها، فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. قلت: ما أهون هذا وأسهله! قالت الجارية: وتركت شيئا آخر! قالت: نعم واللَّه، أعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها، وتراك مجرّدا مقبلا ومدبرا. قلت: وهذا أيضا أفعله! قالت: هلمّ دينارك! فأخرجت دينارا فنبذته إليها؛ فصفقت صفقة أخرى، فأجابتها امرأة؛ قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلمّا الساعة! فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين، هو عليّ بن أبي طالب! قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا، فصعدا، فقصت المرأة عليهما القصة، فخطب أحدهما وأجاب الآخر، وأقررت بالتزويج وأقرّت المرأة؛ فدعوا بالبركة ثم نهضا، فاستحييت أن أحمّل المرأة شيئا من المئونة، فأخرجت دينارا آخر فدفعته إليها، وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي، لست ممن يمسّ طيبا لرجل، إنما أتطيّب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم.

فنهضت الجارية، وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه، ثم عادت، وتغدّينا، وجاءت بأداة وقضيب، وقعدت تجاهي؛ ودعت بنبيذ فأعدّته، واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط، فإني ألفت القينات نحوا من ثلاثين سنة، ما سمعت مثل ترنّمها قط؛ فكدت أجنّ سرورا وطربا، فجعلت أريغ  أن تدنو مني فتأبى، إلى أن غنّت بشعر لم أعرفه، وهو:

راحوا يَصيدونَ الظِباءَ وَإِنَّني

لَأَرى تَصَيُّدُها عَلَيَّ حَراما

أَشبَهنَ مِنكِ سَوالِفاً وَمَدامِعاً

فَأَرى عَلَيَّ لَها بِذاكَ ذِماما

أَعزِز عَلَيَّ بِأَن أُرَوِّعَ شِبهَها

أَو أَن يَذُقنَ عَلى يَدَيَّ حِماما

— قيس بن الملوح

فقلت: جعلت فداك! من يغنّي هذا؟ قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سريج وابن عائشة …
فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب، تغنّت بصوت لم أفهمه، للشقاء الذي كتب عليّ، فقالت:

كأني بالمجرّد قد علته

نعال القوم أو خشب السواري

قلت: جعلت فداك! ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به. قالت: أنا أوّل من تغنى به. قلت: فإنما وهو بيت عابر لا صاحب له؟ قالت: معه آخر ليس هذا وقته، هو آخر ما أتغنى به؟ قال: وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالا لها، فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الأخيرة، وضعت القضيب، فقمت فصليت العشاء وما أدري كم صليت، عجلة وشوقا؛ فلما صليت قلت: تأذنين جعلت فداك في الدنوّ منك؟ قالت: تجرّد! وأشارت إلى ثيابها كأنها تريد أن تتجرّد؛ فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها؛ فتجرّدت وقمت بين يديها مكفّرا لها؛ قالت: امض الى زاوية البيت وأقبل وأدبر، حتى أراك مقبلا ومدبرا.

قال: وإذا حصير في الغرفة، عليه طريق إلى زاوية البيت، فخطرت عليه، وإذا تحته خرق «1» إلى السوق، فإذا أنا في السوق قائما مجرّدا منعظا  ! وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالهما، وكمنا لي في ناحية، فلما هبطت عليهما بادرا إليّ فقطعا نعالهما  على قفاي، واستعانا بأهل السوق؛ فضربت واللَّه يا أبا محمد حتى نسيت اسمي؛ فبينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة، إذا صوت يغنّي به من فوق البيت، وهو:

ولو علم المجرّد ما أردنا

لحاربنا المجرّد بالصحاري

فقلت في نفسي: هذا واللَّه وقت هذا البيت! فنجوت إلى رحلي وما فيّ عظم صحيح؛ فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب! فقلت: لعنها اللَّه ولعن الذي هي منه!

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في قصص من التاريخ

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات