قصة قصيرة: الأقنعة

قال فى أنفة وهو يعتدل فى وقفته :

– عندما يصبح الإنسان حكيماً فى هيئة دجال متلعثم .. وحين يلمع الذكاء في عينين يترسب في أعماقهما الحرمان .. صمت برهة … تابع قوله فى عصبية واضحة :

– تصير الكلمات المبللة بقطرات التفاؤل .. تحمل فى حروفها أشواكاً حارقة …

أكمل فى هدوء :

-حين لا يجد الإنسان فى استطاعته إلا الهرب فلا بد من الصمت …

عاد بعدها ليستدرك :

– لكنى لا أقدر ..

شعر أن كلماته صارت هواء … حدق فى الجالسين من حوله… تراجع … صمم أن يحكى كل شيء … قرر المضي في تراجعه … نظر خرقة ممزقة تكاد تستر جسده … أخرج لسانه من فمه … حاول أن يلفظه بقسوة … تصور أن آخرين سيهاجمونه … ابتلع لسانه … اقترب منهم … أشار إليهم … راح يضحك … سخر منهم … عاد يهددهم بلغة غير مفهومة … استقر بصره فى عينية … رآهم يحملقون فى هيئته بعنف … أشاح بوجهه عنهم … قذف ذراعية فى الهواء … استجمع تركيزه … تمدد بصدره إلى الأمام .. قال وهو يلوك حروفه بثقل شديد :

– كنت أدرى أنه سيموت بعد لحظات …

أكمل فى بطء :

– كنت أملك إسعافه ..

قال كمن يجيب عن حالة :

– لا يلد الكذب إلا غدراً …

سألوه :

– هل ستنتقم .. ؟

لم يعرهم انتباهه … صمت لحظة … أشار إليهم أن يصمتوا … قاطعوه فى صوت واحد :

– نعرف ما حدث …

سرت فيما بينهم ضحكات خبيثة …

أجابهم فى نبرة الواثق :

– لا يدل على ضعف الإنسان مثل إصراره على الانتقام … أطبق عليه صمته … راح يلهث كالمحموم … يعدو كمن يقاتل فى شراسة … الخطوات تثقل في قدميه … يجر الطريق جراً … يرى أن من الضروري للمرء إذا وعد أن يصدق …

– لم كنت تلهث ؟

أجابهم فى برود :

– لقد طلب ذلك مراراً …

ألحوا عليه سماع ما حدث ثانية … تمنع فى البداية …. أحاطوا به من كل جهة … رآهم في عينيه للحظات كأطفاله الذين ذهبوا دون أن يدرى عنهم شيئا … ازداد تمنعا … لم يتركوه … امتلأت نفسه نشوة غريبة … رآهم في بساطته وصدقه …

قال بعفوية :

– المرء يخلع على العالم كله لون شعوره …

بدا فى وجوههم أنهم يصدقونه … تشجع أكثر … أظهر تمنعه … لم يملكه للنهاية .. ضعف أمام إصرارهم … سكت … أحس بخلاياه كلها تنتفض … نظر إليهم فى شفقة … كان يعلم أنهم يشفقون عليه أيضا… يرقون لحاله … حاول ألا يعبأ بهم … استعطفوه ثانية …غاص فى ضعفه … تبلل وجهه كله بالدموع … انتظروه … أمهلوه فى لحظات طويلة كي يستعيد أنفاسه … لا زال الكل يترقبه …

قال بلغة ساخنة كأنها قطرات من دمه :

– كنت أسير في الشارع اللعين ذاته … اللحظة اللعينة ذاتها … استقر فى أذني صوت رهيب … فى لمحة واحدة تبعثر كل ما حولي … لمحته …كان ممداً أسفل السيارة … دهست جسده … خلطت دمه بالتراب … مصمص شفتيه .. قال :

– ألم أخبركم أنى كنت أملك إسعافه …؟

حاول أن يتمالك نفسه … أكمل :

– لكن على أية حال … لا يلد الصبر إلا قوة

تابعوا فى اهتمام … واتته فكرة الهرب من بينهم فجأة … وجد المنافذ كلها قد سدت من حوله … كان عليه أن يستمر فى سرد قصته … فأحياناً يكون الإصرار على الكلام أبلغ من الصمت على عكس ما يدّعون … استحثوه أن يكمل …

قال وهو يعبث بأصابعه فى كفه :

– حاولت أن أمد إليه يدي … شلت أطرافه… كان عاجزاً عن القيام بحركة … اختلطت عيناه بالدم … رأى إصراري على أداء الواجب تجاهه … أشار إلى بصعوبة بالغة … أدركت مقصده … أصر على أن أذهب هناك … عارضته فى البداية .. كنت أريد إنقاذه … ألم أخبركم بأني كنت أملك إسعافه … فالصراحة دائما لا تلد إلا يقيناً … أراد أن يستمهلهم لحظات كي يتم روايته … لم يمهلوه … راحوا يمطرونه بلهفتهم لسماع بقية قصته … حاول الصمت إزاء لهفتهم … لم يستطع … كان عليه أن يستمر … فكثيراً ما تكون حروف الكلمة أوجع من حد السيف وأقتل … أرادوه أن يكمل … تظاهر بالكسل … قاطعوه :

– هل لبيت طلبه …؟

أومأ إليهم برأسه علامة الإيجاب … صدقوه لفورهم … استحثهم أن يمنحوه ثقتهم مرة أخرى …

– لقد أفضى إلى أنه كان ينوى انتهاك حرمة داره … تطلعوا إليه فى تطفل غريب … ورغبه عارمة في سماع المزيد تبرق من عيونهم … قال لهم باعتزاز :

– أدركت أنه كان يقترف إثماً .. أراد أن أقصد داره لأبعد تلك المرأة عنه …

تساقطت دون إرادته بعض من دموعه … مسحها بكفه … حاول أن يعتذر لهم عن إتمام قصته … ما أرادوا منه اعتذارا… وجد أن لا مفر من الاستمرار … حاول أن يوجز فى كلماته … فكثيراً ما يرى الآخرون فضائل بعضهم حماقات ورذائل … قال :

– لا يهم … ما دمت قررت ألا أنتقم …

أراد أن يكمل …

سألوه فى صوت واحد :

– هل قررت الذهاب ساعتها … ؟

تلكأ في الرد … سخر منهم للحظة … لم ينتبهوا … حملق فيهم … امتلكه شعور قوى بالغثيان … أراد أن يقفز بعيداً … وجد سيقانهم الممتدة فى ذعر تعوق من حركته … فاته أن يخبرهم بحقيقة ما رأى … لقد عرف تلك المرأة … حين أوصدت الباب بكلنا يديها فى وجهه … خلطت دمه بالتراب … عاد لسخريته … حاول أن يكمل … لم يلحظ فى وجوههم أنهم قد انتبهوا لوجوده أو أحسوا معنى لما قال … استغرق فى نوبة طويلة من الضحك راح يخبط بيديه على الأرض … بدأ البعض يتبرم بوجوده … استمر فى هذيانه … تضايقوا لصراخه … انتبهوا لهيئته وقبحه … امتلكهم شعور بالقرف الشديد … تضايق لنظراتهم … سال نفسه :

– أين ذهبت شفقتهم بى ؟

تناوله بعضهم من يديه … ساقوه عنوة الى الخارج … القوا به بعيداً عن المكان … استقر فى جلسته يرقبهم … يعود لاتزانه شيئاً فشيئاً … يرثي لحالهم … تمتلئ نفسه شفقة عليهم … يجد أن لا فائدة من المضي فى الكلام …

يقرر :

– لا بد من الصمت …

أحس بتخاذل … عاد ليستدرك …

– لكنى لا أقدر …

حدق فى الجالسين هناك … تراجع … صمم أن يحكى كل شيء … قرر المضي فى تراجعه …

رمقه بعضهم بغضب … صاحوا :

– لماذا يثقل علينا هذا المعتوه … ؟

– لمع الذكاء في عينيه … همس فى هدوء وثقة :

– لا بد أن استمر …

اعتدل فى وقفته … تابع بكلمات مبللة بقطرات من التفاؤل …

وقال فى أنفة :

فالرجولة تحتم على المرء فى كل حين ألا يغمض عينيه أو يلجم لسانه أمام الوجوه الزائفة .

Recommended1 إعجاب واحدنشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات