في رثـاء العربية – معارضة لشاعر النيل حافظ إبراهيم بك!

نظرتُ أموري ، فاشتكيتُ حياتي

وفتشتُ أحوالي ، فانتحبتُ لذاتي

ونقبتُ عن روحي بأرحاب أهلها

فألفيتُها صارتْ سراب شتات

وساءلتُ عن نحوي وصرفي وعزتي

وجادلتُ عن شعري الجريح دُعاتي

وناقشتُ – عن صمت البيان – أعاربي

وقرّعتُ أقزاماً تحب شكاتي

وشيّعتُ جثمان البلاغة في الدجى

وواريتُ – في قبر الجوى – زفراتي

وخمّش حزني كل جرح وقرحةٍ

وهدّد – بالموت الزؤام – حياتي

وبُح نشيجي ، واحتوتني كآبتي

وما خِلتُ يوماً أن تلين قناتي

وربي تناجيني اللغاتُ ، فلا أرى

لهن مكاناً – بالفؤاد – يُواتي

أراني تساميتُ الكثير أبيّة

وغيري تردَّى يشتكي النكبات

ومهما قلاني أهلُ داري ولهجتي

فسوف يعود الدهر بالمَلكات

سيذكرني منهم مدى الدهر مَن غفا

ويعرف قدري مَن أهان كُماتي

ويُدرك حقي كل غِر وحاقدٍ

ويعلو انفعالي بعد طول سُكاتي

فلا يحسِب الأعداءُ أني بلا قوى

ألا إن بأسي لم يهن ورُعاتي

أنا الروضُ فواحَ المُحَيا لمن أتى

يُلّثم مُشتمّاً شذى زهراتي

وإني لأشكو – للمليك – الذي جرى

فيا رب أبطلْ ما افتراه عِداتي

فكم بدّلوا في النحو والصرف بالهوى

وكم حرّفوا في الشعر واللهجات

وكم زوّروا في النقد معنىً وهيئة

وكم أهدروا ميراث جيل نحاتي

نفايات هودٍ في الدروب كما الدُمى

وأعرابُنا ضاعوا بغير نجاة

وهم ضيعوا الفصحى كما ضيعوا الحمى

ودكو المبانيَ بعد ذبح بَناتي

وهم قبّلوا أيديْ النصارى تقرباً

وكم أحدثوا مِن أشنع السقطات

وهل يرفعُ المفعولَ إلا مُخرفٌ؟

وهل يَنصب المَخفوض غيرُ خواة؟

وهل يكسرُ الأوزانَ في الشعر عامداً

يُخرّب شِعر العُرْب غيرُ عُتاة؟

ولو كان قومي سادة وأعزة

لمَا هدّد الماسونُ مَجدَ حياتي

ولو كان أهلي كاليعارب نطقهم

لمَا قد نعاني – للأنام – نعاتي

وبالرغم سال الدمعُ يكوي عزيمتي

وحنجرتي أمستْ تؤز لهاتي

طعنتُ – بهندي الأعادي – تشفياً

وقوميَ لجّوا – بعدها – بسُبات

وعاشوا بألفاظٍ مِن الغرب لحنها

وصارت لهم – في الناس – بعضُ لغات

عجبتُ لهم كيف استساغوا رطانة

وكيف استطابوا هذه النبرات؟

وكيف استراحوا بعد وأدي وغيبتي؟

وكيف استطاعوا حبكة لوفاتي؟

وكيف استعاضوا عن شروقي بظلمةٍ؟

ومِن هزلهم قد تاجروا برفاتي

أنا النورُ للدنيا ، ولفظي حياتها

فهلا استقوْا مني مشاعلَ ذاتي؟

أنا العطرُ في الأرجاء شادٍ أريجُهُ

فهل أحضروا في الملتقى الجؤنات؟

أنا البكرُ تستحيي ، فيخنقها الحيا

فهل أدرك الخطابُ فيم صِماتي؟

أنا الطيرُ في جوّ السماء تزينتْ

أغني ، فهل طابت لهم نغماتي؟

أنا الشمسُ في جوف الفضاء تربعتْ

إذا طلعتْ أرْدتْ دجى الظلمات

فهلا استناروا بي ، ولم يتمردوا؟

أضاحِكُهم ، هل آنسوا ضحكاتي؟

أنا الذهبُ الصافي لمن رام حِلية

أزيّن – بين الناس – حُسن بناتي

فهلا أتوْني خاطبين بُنية؟

وهل أعجبتْهم ، يا ترى ، فلذاتي؟

أنا النبعُ يروي كل قفر وواحةٍ

ويُهدي حياة العز كل نبات

فهل شربوا ماء فراتاً مُقطراً

يُعافي من الأسقام والوعكات؟

أنا اللبَنُ الزاهي شراباً وطعمة

وكم أشبعتْ مِن أمةٍ قطراتي

فهلا استزادوا مِن مَعِيني فيشبعوا؟

ومهما جَفوْني لن أروّع آت

أنا الماءُ يسقي مِن ظِماءٍ وشرقةٍ

وسلْ عن جمال الرِّيِّ بعضَ رُواتي

فهلا تملى مِن صَفائي صَحابتي؟

وهل أشبعتْ جيلَ العِطاش قناتي؟

أنا الزادُ سمّنتُ الجياعَ ، وزدْتهم

فكانت زكاة القوم بعضُ فتات

فهل أكل الأقوام مِن حُلو زادهم؟

وهل أعجبتْهم ، يا ترى ، ثمراتي؟

أنا الخيرُ للدنيا ، وإنْ هيَ أعرضتْ

فبي تزدهي في التو بعد ممات

وإني سبيلُ الفوز في كل مَحفل

ولي في بقاع الأرض عذبُ صِفات

فكيف رماني كل خاو ومفلس؟

ألا قبّحوا مِن خُوّم وقساة

وقالوا بأني لستُ أقوى على المَضا

وهاجوا ، وماجوا في دُجى النعرات

وكالوا – بظلم – عثرة بعد عثرةٍ

ويعلم ربي جَوْرَ ذي العَثرات

فعِرضي برئٌ مِن أباطيلَ ألصقتْ

وإني لأشكو خذل كل حُماتي

ولو كنتُ أرضى بالأحاجي لذِعتُها

وأخرستُ – بالتبيان – قيلَ نعاتي

ولو خِفتُ أعدائي لمَا ذِعتُ كيدهم

فليس يُهمُّ الصِيدَ نيلُ جُفاة

ومهما تحداني الأعادي فهمّتي

تفوق الثريا – في العُلا – بثبات

ملايين ألفاظي تفوق كلامهم

ونحوي وصرفي – في النزال – رُماتي

فبي كان قرآنُ المليك وشرحُه

وبي سُطرتْ كم من رؤىً وعِظات

وبي دُونتْ أقوالُ (أحمدَ) تزدهي

وبعدُ استبانتْ كم رؤىً لأباة

وبي أنزل الفرقانُ غضاً مُكرّماً

وبي وُطدتْ كم من عُرىً وصِلات

وفي نضرتي يا كم تغزل شاعرٌ

وفي عِزتي الفضلى أسَرتُ هُواتي

وزادت على اللاعدِّ ألفاظ مُعجمي

وهذا (ابنُ منظور) له قبلاتي

فقد جَمّعَ الألفاظ يطفو أريجُها

على سطح ضادِ العُرب خيرِ فرات

و(تاجُ العروس) اليوم في عز عُرسِهِ

يُرصّعُ ضاد الشمّ بالنفحات

وهذا (ابنُ جني) يُقننُ نحوها

ببعض يواقيتٍ وبعض أناة

ولستُ التي تنسى (الأماليَّ) لحظة

فقد بالغ (القاليُّ) في القفشات

ولستُ التي تنسى (الصّحاح) نقية

وقد سافر (الرازيّ) في الكلمات

ولستُ التي تنسى (المحيط) بما حوى

وقد جدّد (الفيروز) بعضَ سِمات

ولا أهجرُ (المصباح) نبعاً ومعجماً

وأكرمْ بيُمنى حبّرتْ ودَواة

ولازلتُ أعطي مَن يَرومُ تعلمي

وأغدق في الإكرام والصدقات

أنا الغادة الشقرا صَداقي مُكَلفٌ

ولستُ أحب العيش بين مَوات

وأعشقُ مَن يحيا لدين مُعززاً

ولا أرتضي كيداً بفعل حُواة

وأهوى حياة الجد والسعي للعُلا

وأصبر إنْ طمتْ غمومُ شِمات

وأغشى ديار المجد إنْ ضاق بيْ الفضا

وأسمو ، وغيري في عَمَى السكرات

وما بي أراجيفٌ ، وساحِي سوية

ولستَ ترى بي من رُبَىً وإمات

تجمّلتُ حتى قيل: أندى مَلِيكةٍ

وأعطيتُ حتى قيل: بيتُ زكاة

وما جَرُأ الأقزامُ أن يشجبوا اللوا

وما جرُأوا أن يَمحقوا حَسناتي

ليَ الله إني – في ابتلائي – ضعيفة

وقومي قلوْني ، واستباحوا أساتي

فيا رب أرجعْهم لضادٍ وشِرعةٍ

عساهم – بهذا – أن يذوقوا ثباتي

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

لُغتُنا.. هُويّتُنا

المقدّمةُ الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ الّذي نزّلَ القرآنَ العظيمَ هدىً ورحمةً للعالمينَ، وخصّهُ بلغةٍ بالمعاني تَتَعالى، وبالألفاظِ تتَباهَى، وبالبلاغةِ تتَهادَى، جلِيـلةً في قَدْرِها، عظيمةً في…

تعليقات