وفود الشعراء على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه

وفود الشعراء على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه - عالم الأدب

ابن الكبى: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله، فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم بالدخول، حتى قدم عون بن عبد الله بن عنبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز، وعليه عمامة قد أرخى طرفيها، وكانت له منه مكانة، فصاح به جرير:

يا أيها الرجل المرخي عمامته … هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه … أني لدى الباب كالمصفود في قرن
وحش المكانة من أهلي ومن لدى … نائي المحلة عن داري وعن وطني

قال: نعم أبا حزرة ونعمى عين. فلما دخل على عمر، قال: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك، وأقوالهم باقية وسنانهم مسنونة؛ قال: يا عون: مالي وللشعراء؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن النبي صلى الله عليه وسلم: قد مدح وأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم؛ قال: ومن مدحه؟ قلت: عباس بن مرداس، فكساه حلة قطع بها لسانه؛ قال: وتروي قول؟ قلت: نعم:

رأيتك يا خير البرية كلها … نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
ونورت بالبرهان أمراً مدمساً … وأطفأت بالبرهان ناراً مضرما
فمن مبلغ عني النبي محمداً … وكل امرئ يجزى بما قد تكلما
تعالى علواً فوق عرش إلهنا … وكان مكان الله أعلى وأعظما

قال: صدقت، فم بالباب منهم؟ قلت: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة؛ قال: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه، أليس هو القائل:

ألا ليت أني يوم حانت منيتي … شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله … وليت حنوطي من مشاشك والدم
ويا ليت سلمى في القبو ضجيعتي … هنالك أو في جنة أو جهنم

فليته والله تمنى لقاءها في الدنيا، ويعمل عملاً صالحاً، والله لا دخل علي أبداً؛ فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: جميل بن معمر العذري؛ قال: هو الذي يقول:

ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمت … يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب … إذا قيل قد سوي عليها صفيحها
أظل نهاري لا أراها ويلتقي … مع الليل روحي في المنام وروحها

اعزب به، فوالله لا دخل علي أبداً، فمن غير من ذكرت؟ قلت: كثير عزة؛ قال: هو الذي قال:

رهبان مدين والذين عهدتهم … يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها … خروا لعزة راكعين سجودا

اعزب به، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأحوص الأنصاري؛ قال: أبعد الله ومحقه، أليس هو القائل، وقد أفسد على أهل المدينة جارية عرب بها منه:

الله بيني وبين سيدها … يفر عني بها وأتبع

اعزب به، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: همام بن غالب الفرزدق؛ قال: أليس هو القائل يفخر بالزنى:

هما دلتاني من ثمانين قامة … كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا … أحي يرجى أم قتيل نحاذره
وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت … مغلقة دوني عليها دساكره
فقلت ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا … ووليت في أعقاب ليل أبادره

اعزب به، فوالله لا دخل علي أبداً، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأخطل التغلبي؛ قال: أليس هو القائل:

فلست بصائم رمضان عمري … ولست بآكل لهم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا بكوراً … إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالعير يدعو … قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً … وأسجد عند منبلج الصباح

اعزب به، فوالله لا وطئ لي بساطاً أدباً وهو كافر، فمن الباب غير من ذكرت؟ قلت: جرير بن الخطفي؛ قال: أليس هو القائل:

لولا مراقبة العيون أريتنا … مقل المها وسوالف الآرام
هل ينهينك أن قتلن مرقشا … أو ما فعلن بعروة بن حزام
ذم المنازل بعد منزلة اللوى … والعيش بعد أولئك الأقوام
طرقتك صائدة القول وليس ذا … حين الزيارة فارجعي بسلام

فإن كان ولا بد فهذا، فأذن له فخرجت إليه، فقلت: ادخل أبا حزرة؛ فدخل وهو يقول:

إن الذي بعث النبي محمداً … جعل الخلافة في إمام عادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه … حتى أرعوى وأقام ميل المائل
والله أنزل في القرآن فريضة … لابن السبيل وللفقير العائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً … والنفس مولعة بحب العاجل
فلما مثل بين يديه، قال: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً؛ فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاء أرملة … ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده … كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به … خبلا من الجن أو مسا من البشر
خليفة الله ماذا تأمرن بنا … لنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني … قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا … ولا يعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا … من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدراً … كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها … فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

فقال: يا جرير، والله لقد وليت هذا الأمر، وأملك إلا ثلثمائة، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها أم عبد الله، يا غلام، أعطه المائة الباقية؛ فقال: والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال إلي كسبته، ثم خرج؛ فقالوا له: ما وراءك؟ قال: ما يسوؤكم، خرجت من عند أمير المؤمنين يعطى الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول:

رأيت رقى الشيطان لا تستفزه … وقد كان شيطاني من الجن راقياً.

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مقالات

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات