هذيان

وقد لاح لي في السماء ظلك طائرًا فوق الأرض بجناحيك طافيا على الهواء رافعًا رأسك بعزة وكبرياء؛

وللمرة الألف أخبرك بأن هيبتك لا تظل ظاهرة كما لو كانت في أول لقاء بيننا بل وتزيد كلما ارتفعت نحو الأعلى.

صديقي الأهدب: لقد مر وقت طويل على ذلك! ربما لستُ مِنْ البارعين في إفشاءِ أسرارِ عواطفهم اَلْمَكْسُورَة منها خاصة؛ لكن لربما كان رحيلك في المرة الأخيرة متعجلاً، حتى تعجبت من سرعته! كنت خير الجليس والمؤنس والصاحب في صحراء الوحدة التي كانت تزحفُ للبِّ روحي، كنت خير الصاحب والمرشد الذي تمنيته لنفسي، لكن مع رحيلك المفاجئ زالت البسمة التي كانت تُشرق قبل الشمسِ في أيامي، وَاسْتُبْدَلَتْ بملامح الحسرة والتشاؤم اللذين كانا يقضمان كلّ لحظات اَلْفَرَح والسرور، ومع كل موقف أتردد فيه تحرقني تنهيدةِ شوق وحزن فيها على اختفاء ظلك الغامض؛ لِأَبْكِيَ ذاتي من دونك، ومن دون نصحك ودقة تنبيهك… أبكي بحرقةٍ كمن فصل الموت بينه وبين صديقه العزيز.

جئتك اليوم يا صاحبي مطأطأ الرأس حافي القدمين كمن أحفاه طول السعي، جئتك من قوة مرهقة- أكثر من أي وقتٍ مضى- من عيون ذاهلة شاخصة، وسارحة إلى اللامكان، وذهن لا يدعني أنام أبدًا؛ لكني اليوم سأستغل هذا الأرق للفضفضة بالرغم أني أعرف بأنني سأندم على ذلك مع طلوع الصبح!

يقال: “إن الأشياء تصبح غير ملحوظة عندما نعتاد عليها” خصوصًا لأولئك الذين لا ينظرون إلى ما وراء الأشياء بل إلى الظاهر منها لَحْظِيًّا وفقط، يصغون فقط إلى نغمة أنفسهم ويشغلون عواطفهم باستماع الأصوات التي يحدثها محيطهم ويلهي بها ميولهم؛ ببرمجة المرئيات التي تُعمي النفس عن أسرار الحياة،وتحول النفس عن إدراك خفايا الكيان إلى ملاحظة الملذات المؤقتة… فيتانسون أن يرسموا خيالاتٍ للحظةِ الفراق، كيف تبدوا ؟! وكيف ستكون، وعلى أيِّ حال!

ويا ويح فؤادي الضعيف! ما باله يلوك بذكريات ومجالس مع أناس يتسامر معهم ولا يرسم لحظةً فِرَاق؟! وما أقسى عذاب الاعتيادية، وما أقسى عذاب الفراق!

لا زلت كما تركتني في مكاني أضيعُ مزيدًا من الوقت والجهد في أفكار عشوائية لا تقدم ولا تؤخر!

وأنا الذي أبحث عن نصيبي من النوم بلا أرق، في وطأة الليل مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيني وتضمحلُّ بمجيء الصباح!

مثلي مثل الكثير منا نقاسي في إقناع الغير أن جوع النفسية للاحتواء لا يشبه جوع المعدة، وأن الوحدة كفيلة بأن تجعل شخصًا سليمًاًّ يهدي، لكن هيهات فلا شيء سيتغير، ولا شيء سيُفهم!

قيل لي ذات مرة بأن الكتاب لا يُثرثرون، يكتفون فقط بتدوين كلِّ همٍّ مختزنٍ في دواخلهم على ورق، يحثّون الصمت نحو زاويةٍ قصيّة، يزدردون بَرَاكِين تستعر من أَحَادِيث مخبئة معجونة بطين المشاعر الغاضبة دواخلهم، ويسيحون على الأوراق حبرهم فعلاً وعملاً؛ ليغرقوا الورقة بكتابة التاريخ وصناعة أبطال خارقين لا تبدوا لهم أهميّة- عند الكثير- ومع أي هنيهةً تأثر تجدُ موجةُ البكاء منفذًا لأعينهم.

الكتاب تجدهم بين سطور التناسي يهيمون، يغزلون من الحروف والقوافي قَلَائِد من أمالٍ يخبئونها على صدرِ أحلامهم، وينتشلون من قاعِ بحر الكلمات ما يُبرِّدُ لهيب أشواقهم، أجسادهم دوماً في الأرضِ وأرواحهم سماويّة بين الكواكب والنجوم.

الكتاب لا تكسرهم المصائب بعظمها، بقدر ما يخيبهم السؤال العبثي المحبط عن المقصد؛ ويا خيبة من سئل عند مقصده بعد فضفضة طويلة!

أن تكتب في الليل يا طائري كمثل أن تتحول إلى طور الروح بعد أن تخرج روحك من جسدك وتحرر من قيده- الخروج الأصغر- لتصعد للأعلى وتسبح في الفضاء حرة تعيش، لا تنطبق عليها قوانين الزمان ولا المكان- وأنت الذي أخبرني بأن الفضاء ليس بذلك السوء الذي يبدو به- ففيه تروي فضول تلك الأسئلة التي تنامت بداخلك لتدرك أن الفضاء ليس افتراضيا من خيال- كما كذبوا عليك- بل هو حقيقة تتجرد فيها من كل شيء بأن تلقي همومك في مكان لا تتذكره أبدًا،وكأنك ولدت من جديد فمن هناك بدأنا وإلى هناك ستعرجُ أرواحنا مرة أخرى؛ بذلك الحدّ الفاصل الذي يخشى الناس ذكره، وما هو سوى بابٍ من دُنْيَا فانية لعالمٍ برزخيٍّ لا نُدرك ماهيته بمحدوديّة عقولنا البشريّة.

أتعلم أني قد أخذت بنصيحتك وجربت الكتابات الورقية- فقط لأنك أردت ذلك- فاكتفيت بالكتابة في وطأة الليل الطويل، والذي استغربتني فيه الكثير من نصوصي السرية؛ بوجود الكثير من الأفكار الغزيرة بالمواضيع المختلفة لكن ما يغطي عليها هو الخط السيئ، ومد الطابع السوداوي الذي لا زال يطغى على الورق! وكأن ريشيتي قد عادت حزينة تأبى الكتابة بتفاؤل!

أتذكر مرة أني قد كتبت عن النجوم وهي التي كانت تؤنسني بأن تُسمعني موسيقى الكون؛موسيقى من الطراز المريح، وتُجيبني عن الكثير من الأسئلة بإجابات تتغير وتتطور مع مرور الأيام والشهور ومع فرط الخيال..

إن هذه الأحداث و الموسيقى الذي أحدثك عنها ليست مجرد هذيان نتيجة التعب، بل هي صوت عقلي الباطن الذي كثيرًا ما أهرب منه؛ خصوصا أني كنت أغظّ الطرف عن كثير من الحقائق،وعندما فهمت الرسالة التي حدثتني بها النجوم! وضعت حدًا لنفسي لتلك (العَشْرّة) ولتلك القصة؛ فإن كان المضي فيها ا خيرًا فلقد استكثرت منه، وإن كان شر فقد آن الأوان لأن أتركها ابتغاء مرضات الله،وأنت تدرك بأن الطامع في مرضات الله لا يخيب.

سيد أحمد حفيان

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في مشاركات الأعضاء

قد يعجبك أيضاً

جدارية لمحمود درويش

هذا هُوَ اسمُكَ / قالتِ امرأةٌ ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ… أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي . ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ طُفُولَةٍ أَخرى…

تعليقات