قصة ذو الرّمة وعصمة بن عبد الملك مع ميّة معشوقته

قصة ذو الرّمة وعصمة بن عبد الملك مع ميّة معشوقته

قال أبو صالح الفزاري: ذكرنا ذا الرّمة، فقال عصمة بن عبد الملك – شيخ منا قد بلغ عشرين ومائة سنة- : إياي فاسألوا عنه؛ كان من أظرف الناس، آدم، خفيف العارضين، حسن الضحك، حلو المنطق، وإذا أنشد جشّ صوته، وإذا راجعك لم تسأم حديثه وكلامه.

وكان له إخوة يقولون الشعر، منهم مسعود، وهشام وأوفى، وكانوا يقولون القصيدة فيزيد عليها الابيات فتذهب له.
فجمعني وإياه مرتبع، فأتاني يوما، فقال لي: هيا: [يا عصمة] ؛ إنّ مية منقرية، وبنو منقر أخبث حيّ، وأقفى للأثر، فهل عندك ناقة نردار عليها مية؟ قلت: واللَّه إنّ عندي الجؤذر. قال: عليّ بها.

فركبنا جميعا وخرجنا حتى أشرفنا على بيوت الحيّ، وإذا ببيت فيه ناحية، والقوم خلوف ، والنساء في الرحال، فعرفن ذا الرمّة فتقوّض  النساء إلى مية؛ وجئنا ثم أنخنا، ثم دنونا، فسلمنا وقعدنا نتحدّث؛ فإذا هي جارية أملود  ، واردة  الشعر، بيضاء تغمرها صفرة، وعليها ثوب أصفر، وطاق أخضر؛ فقلن: أنشدنا يا ذا الرمّة؛ فقال: أنشدهنّ يا عصمة. فأنشدتهنّ:

نظرت إلى أظعان ميّ كأنها

ذرا النخل أو أثل تميل ذوائبه

فأعربت العينان والصدر كاتم

بمغرورق تمت عليه سواكبه

بكا وامق خاف الفراق ولم تجل

 جوائلها أسراره ومغايبه

 

فقالت ظريفة منهنّ: لكن الآن فلنجل. قال: فنظرت إليها مية متكرهة، ثم مضيت في القصيدة، حتى انتهيت إلى قوله:

إذا سرحت من حبّ ميّ سوارح

على القلب آبته جميعا عوازبه

فقالت [لها] الظريفة: قتلته قاتلك اللَّه! قالت مية: ما أصحه وهنيئا له! فتنفس ذو الرمّة تنفسا ظننت معه أنّ فؤاده قد انصدع؛

ومضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله:

وقد حلفت باللَّه ميّة ما الذي

قول لها إلا الذي أنا كاذبه

إذا فرماني اللَّه من حيث لا أرى

ولا زال في أرضي عدوّ أحاربه

فالتفتت إليه [ميّة] فقالت: خف عواقب اللَّه! ومضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:

إذا راجعتك القول ميّة أو بدا

لك الوجه منها أو نضا الثّوب سالبه

فيا لك من خدّ أسيل ومنطق

رخيم ومن خلق تعلّل جادبه

فقالت الظريفة: أما هذه فقد راجعتك، وقد بدا لك الوجه منها، فمن لك بأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت مية إليها فقالت: قاتلك اللَّه، ما أنكر ما تجيبين به! فتحدثن ساعة، ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهذين شأنا، فقمن بنا [عنهما.
فقامت، وقمن معها] وقمت معهنّ: فجلست في بيت أراهما منه، فما رأيته برح من مقعده ولا قعدته؛ فسمعتها قالت له:

كذبت واللَّه! ولا أدري ما قال لها. فلبثت قليلا ثم جاءني ومعه قارورة فيها دهن ومعه قلائد، فقال: هذا دهن طيب أتحفنا به، وهذه قلائد للجؤذر؛ ولا واللَّه ما أقلدهن بعيرا أبدا!

وشدّ بهن ذوائب سيفه، وانصرفنا؛ فكنا نختلف إليها حتى انقضى الربيع ودعا الناس المصيف؛ فأتاني فقال: هيا عصمة، رحلت ولم يبق إلا الآثار والرسوم من الديار! وأنشدني:

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر

Recommend0 هل أعجبك؟نشرت في قصص من التاريخ

قد يعجبك أيضاً

تعليقات