قصة دعبل الخزاعي وصريع الغواني مع الجارية

قصة دعبل الخزاعي وصريع الغواني مع الجارية

حدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر، وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر قد نطق بها اللسان من غير اعتقاد جنان، فقلت:

دُموعُ عَيْني بها انبساطٌ

ونومُ عينْي بهِ انقباضُ

فإذا أنا بجارية فائقة الجمال حوراء الطرف، يقصر عن نعتها الوصف؛ لها وجه زاهر، ونور باهر، فهي كما قال الشاعر:

كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة

في كل جارحة منها لها قمر

وهي تسمعني، فقالت:

هذا قليل لمن دهته

بلحظها الأعين المراض

فأجبتها:

فهل لمولاي عطف قلب

أو للّذي في الحشا انقراض؟

فأجابتني فقالت:

إن كنت تبغي الوداد منّا

فالودّ في ديننا قراض

قال دعبل: فلم أعلمني [قبلها] خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها وتختلس الأرواح ببراعة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمتها، مع تلاعة جيد  ، ورشاقة قدّ، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق؛ فحار واللَّه البصر، وذهب اللّب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتغللت الرّجلان؛ وما ظنك بالحلفاء  إذا دنت من النار؟ ثم ثاب إليّ عقلي، وراجعني حلمي، فذكرت قول بشار:

لا يمنعنّك من مخدّرة

قول تغلّظه وإن جرحا

عسر النساء إلى مياسرة

والصّعب يمكن بعدما جمحا

هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد قبل المسألة، وبذل قبل الطلبة؟ فقلت مسمعا لها:

أترى الزمان يسرنّا بتلاق

ويضم مشتاقا إلى مشتاق؟

فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس:

ما للزّمان يقال فيه وإنما

أنت الزمان فسرّنا بتلاق!

قال دعبل: فلحظتها ومضيت وتبعتني، وذلك في أيام إملاقي، فقلت: مالي إلا منزل مسلم صريع الغواني، فسرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فخرج: فقلت له: اكمل الخير، معي وجه صبيح، يعدل الدنيا بما فيها، وقد حصل على ضيقة وعسر! فقال: قد شكوت ما كدت أباديك بشكواه! ائت بها. فلما دخلت قال: واللَّه لا أملك غير هذا المنديل! فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك اللَّه لك فيه! فأخذته، فبعته بدينار وكسر، فاشتريت لحما وخبزا ونبيذا، وصرت إليه: فإذا هما يتساقطان حديثا كأنه قطع الروض المعطور؛ قال: ما صنعت؟ فأخبرته؛ قال:

كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب؟

اذهب فالطف لتمام ما كنت أوّله.

قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى اتيت به، فألفيت باب الدار مفتوحا، فدخلت؛ فإذا لا يرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثر، فسقط في يدي، وقلت:

أرى صاحب الربع أخذهما! فبقيت متلهفا حائرا، أرجم الظنون وأجيل الفكر سائر يومي؛ فلما أمسيت قلت في نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر؟ ففعلت، فوقفت على باب سرداب له، وإذا هما قد هبطا فيه، وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه، فأكلا وشربا وتنعّما؛ فلما أحسستهما دليت رأسي ثم ناديت:

مسلم! ويلك! فلم يجبني، حتى ناديت ثلاثا؛ فكان من إجابته لي أن غرّد بصوت يقول فيه:

بتّ في درعها وبات رفيقي

جنب القلب طاهر الأطراف

ثم قال: دعبل، ويلك! من يقول هذا؟ قلت:

من له من حر امّه ألف قرن

قد أنافت على علوّ مناف

قال: فضحك، ثم سكتا، واستجلبت كلامهما فلم يجيباني، وأخذا في لذتهما، وبتّ بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولا وغما! حتى إذا أصبحت ولم أكد، خرج إليّ مسلم، فجعلت أؤنبه، فقال لي: يا صفيق الوجه! منزلي، ومنديلي، وطعامي، وشرابي؛ فما شأنك في الوسط؟ قلت له: حقّ القيادة والفضول واللَّه لا غير! فولى وجهه إليها وقال: بحياتي إلا أعطيتيه حق قيادته وفضوله! قالت: أما حق قيادته فعرك أذنه، وأما حق فضوله فصفع قفاه! فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني، فقلت: ما هذا؟ فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق!

Recommended1 إعجاب واحدنشرت في قصص من التاريخ

قد يعجبك أيضاً

تعليقات