شرح معلقة امرئ القيس – قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

شرح معلقة امرئ القيس - قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل - عالم الأدب

كان امرؤ القيس ذكيًّا متوقّد الفهم. فلما ترعرع أخذ يقول الشعر، فبرَّزَ فيه إلى أن تقدَّم على سائر شعراء وقته بالإجماع. وكان مع صغر سنه يحبّ اللهو، ويستتبع صعاليك العرب ويتنقَّل في أحيائها فيغير بهم، وكان يكثر من وصف الخيل ويبكي على الدمن ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك.

امرؤ القيس من فحول شعراء الجاهلية يعد من المقدمين بين ذوي الطبقة الأولى وفي شعره رقة اللفظ وجودة السبك وبلاغة المعاني، سبق الشعراء إلى أشياء ابتدعها واستحسنها العرب واتبعته عليها الشعراء كوقوفه واستيقافه صحبه في الديار ورقة النسيب، وقرب المأخذ وجودة التشبيه وتفننه فيه، ودقة الوصف، وبراعته فيه وما في وصفه من حياة وحركة، وفي شعره من رمز وتلميح ومن موافقة الألفاظ للمعاني.

إن امرأ القيس لم يسبق الشعراء؛ لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتّبعوه فيه؛ لأنه أول من لطف المعاني ومن استوقف على الطلول وقرب مآخذ الكلام فقيد الأوابد وأجاد الاستعارة والتشبيه، منها ذكر الطلول والالتفات إلى الأحباب والتفنن في الأوصاف، وقد ترك امرؤ القيس مذهبًا شعريًّا هو الوقوف على الأطلال والبكاء عليها، سار عليه الشعراء من بعده.

شرح معلقة امرئ القيس

معلقة امرئ القيس هي قصيدة من الشعر العربي تُنسب إلى الشاعر امرئ القيس الكندي الشهير بـالملك الضليل، قالها قي القرن السادس الميلادي وهي أشهر المعلقات، وتُصنّف بأنّها من أجود ما قيل في الشعر العربي، وهي منظومة على البحر الطويل، وقد اختلف الرواة في عدد أبياتها، فروى بعضهم أنها من 77 بيتًا وآخرون قالوا أنها: 81 بيتًا وآخرون قالوا أنها: 92 بيتًا.

 

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

خاطب الواحد خطاب الاثنين، وإنما فعلت العرب ذلك لأن الرجل يكون أدنى أعوانه اثنين: راعي إبله وراعي غنمه، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى خطاب الاثنين على الواحد لمرون ألسنتهم عليه، ويجوز أن يكون المراد به: قف قف، فإلحاق الألف أمارة دالة على أن المراد تكرير اللفظ.
السقط: منقطع الرمل حيث يستدق من طرفه، والسقط أيضًا ما يتطاير من النار، والسقط أيضًا المولود لغير تمام، وفيه ثلاث لغات: سَقط وسِقط وسُقط في هذه المعاني الثلاثة اللوى: رمل يعوج ويلتوي. الدخول وحومل: موضعان.
يقول: قفا وأسعداني وأعيناني، أو قف وأسعدني على البكاء عند تذكري حبيبًا فارقته ومنزلًا خرجت منه، وذلك المنزل أو ذلك الحبيب أو ذلك البكاء بمنقطع الرمل المعوج بين هذين الموضعين.

فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

توضح والمقراة موضعان وسقط اللوي بين هذه المواضع الأربعة، قوله: لم يعف رسمه، أي لم يَنْمَحِ أثرها. الرسم ما لصق بالأرض من آثار الدار مثل البعر والرماد وغيرهما. والجمع أرسم ورسوم، قوله: وشمأل فيها ست لغات: شمال وشمأل وشأمل وشمول وشَمْل وشَمَل. نسج الريحين: اختلافهما عليها وستر إحداهما إياها بالتراب وكشف الأخرى التراب عنها.

يقول: لم ينمحِ ولم يذهب أثرها؛ لأنه إذا غطته إحدى الريحين بالتراب كشف الأخرى التراب عنها، وقيل: بل معناه لم يقتصر سبب محوها على نسج الريحين بل كان له أسباب منها هذا السبب ومر السنين وترادف الأمطار وغيرها، وقيل: بل معناه لم يعف رسم حبها من قلبي وإن نسجتها الريحان، والمعنيان الأولان أظهر من الثالث وقد ذكرها كلها أبو بكر ابن الأنباري

تَرَى بَعَرَ الأرْآمِ فِي عَرَصَاتِهَـا

وَقِيْعَـانِهَا كَأنَّهُ حَبُّ فُلْفُــلِ

الأرآم: الظباء البيض الخالصة البياض، وهي تسكن الرمل. عرصات في “المصباح”: عرصة الدار ساحتها، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء
قيعان جمع قاع وهو المستوي من الأرض، وقيعة مثل القاع، الفلفل قال في القاموس: كهدهد وزبرج، حب هندي، ونسب الصاغاني،

يقول: انظر بعينيك تر هذه الديار التي كانت مأهولة مأنوسة بهم خصبة الأرض، كيف غادرها أهلها وأقفرت من بعدهم أرضها وسكنت رملها الظباء، ونثرت في ساحاتها بعرها حتى تراه كأنه حب الفلفل في مستوى رحباتها.

كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُـوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

الغداة الضحوة، والجمع غدوات. البين: الفرقة وهو المراد هنا، وفي “القاموس”: البين يكون فرقة ووصلًا، اليوم: معروف، مقداره، من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يراد باليوم الوقت مطلقًا، تحملوا واحتملوا بمعنى: أي ارتحلوا. لدى بمعنى عند. سمرات جمع سمرة، بضم الميم: من شجر الطلح. الحي: القبيلة من الأعراب، والجمع أحياء. نقف الحنظل: شقة عن الهبيد، وهو الحب، كالإنقاف والانتقاف، وهو، أي الحنظل، نقيف ومنقوف، وناقفهِ الذي يشقه.

يقول: كأني عند سمرات الحي يوم رحيلهم ناقف حنظل، يريد وقف بعد رحيلهم في حيرة وقفة جاني الحنظلة ينقفها بظفره ليستخرج منها حبها

وُقُوْفاً بِهَا صَحْبِي عَلَّي مَطِيَّهُـمُ

يَقُوْلُوْنَ لاَ تَهْلِكْ أَسَىً وَتَجَمَّـلِ

نصب وقوفًا على الحال، يريد قفا نبك في حال وقف أصحابي مطيهم علي، الصحب: جمع صاحب، لمطي: المراكب، واحدتها مطية، وتجمع المطية على المطايا والمطي والمطيات،

يقول: قد وقفوا عليّ أي: لأجلي أو على رأسي وأنا قاعد عند رواحلهم ومراكبهم، يقولون لي: لا تهلك من فرط الحزن وشدة الجزع وتجمل بالصبر، وتلخيص المعنى: أنهم وقفوا عليه رواحلهم يأمرونه بالصبر وينهونه عن الجزع.

وإِنَّ شِفـَائِي عَبْـرَةٌ مُهْرَاقَـةٌ

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

المهراق والمراق: المصبوب، وقد أرقت الماء وهرقته وأهرقته أي صببته: المعوّل: المبكى، وقد أعول الرجل وعوّل إذا بكى رافعًا صوته به، والمعول: المعتمد والمتكل عليه أيضًا. العبرة: الدمع، وجمعها عبرات، وحكى “ثعلب” في جمعها العِبَر مثل بدرة وبِدَر.

يقول: وإن برئي من دائي ومما أصابني وتخلصي مما دهمني يكون بدمع أصبّه ثم قال: وهل من معتمد ومفزع عند رسم قد درس، أو هل موضع بكاء عند رسم دارس؟ وهذا استفهام يتضمن معنى الإنكار، والمعنى عند التحقيق: ولا طائل في البكاء في هذا الموضع؛ لأنه لا يرد حبيبًا، ولا يجدي على صاحبه بخير، أو لا أحد يعول عليه ويفزع إليه في مثل هذا الموضع، وتلخيص المعنى: وإن مخلصي مما بي بكائي، ثم قال: ولا ينفع البكاء عند رسم دارس، أو ولا معتمد عند رسم دارس.

كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلَهَـا

وَجَـارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَـلِ

الدأْبُ والدأَبُ، بتسكين الهمزة وفتحها: العادة، وأصلها متابعة العمل والجد في السعي، دأب يدأب دأبًا ودئابًا ودءوبًا، وأدأبت السير: تابعته. مأسَل، بفتح السين: جبل بعينه، ومأسِل، بكسر السين: ماء بعينه والرواية فتح السين.

يقول: عادتك في حب هذه كعادتك من تينك، أي: قلة حظك من وصال هذه ومعاناتك الوجد بها كقلة حظك من وصالهما، ومعاناتك الوجد بهما، قوله: قبلها أي: قبل هذه التي شغفت بها الآن.

إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَـا

نَسِيْمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ

ضاع الطيب وتضوّع إذا انتشرت رائحته. الريّا: الرائحة الطيبة.

يقول: إذا قامت أم الحويرث وأم الرباب فاحت ريح المسك منهما كنسيم الصبا إذا جاءت بعرف القرنفل ونشره. شبه طيب رياهما بطيب نسيم هبّ على قرنفل وأتى بريّاه، ثم لما وصفهما بالجمال وطيب النشر وصف حاله بعد بعدهما.

فَفَاضَتْ دُمُوْعُ العَيْنِ مِنِّي صَبَابَةً

عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِي مِحْمَلِي

الصبابة: رقة الشوق، وقد صبّ الرجل يصب صبابة فهو صَبٌّ، والأصل صبب فسكنت العين وأدغمت في اللام. المحمل: حمالة السيف، والجمع المحامل، والحمائل جمع الحمالة.

يقول: فسالت دموع عيني من فرط وجدي بهما وشدة حنيني إليهما حتى بلّ دمعي حمالة سيفي.

ألاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِـحٍ

وَلاَ سِيَّمَا يَوْمٍ بِدَارَةِ جُلْجُـلِ

في ربّ لغات: وهي رُبَّ ورَبَّ ورُبْ ورُبَ ثم تلحق التاء فتقول ربّة وربّت، وربّ موضوع في كلام العرب للتقليل وكم موضوع للتكثير، ثم ربما حملت رُبّ على كم في المعنى فيراد بها التكثير، وربما حملت كم على رب في المعنى فيراد بها التقليل، ويروى: ألا رب يوم كان منهن صالح، والسيّ: المثل: يقال هما سيان أي مثلان. ويجوز في يوم الرفع والجر، فمن رفع جعل ما موصولة بمعنى الذي، والتقدير: ولا سي اليوم الذي هو بدارة جلجل، ومن خفض جعل ما زائدة، وخفضه بإضافة سيّ إليه فكأنه قال: ولا سي يوم أي ولا مثل يوم. دارة جلجل غدير بعينه. يقول: رب يوم فزت فيه بوصال النساء وظفرت بعيش صالح ناعم منهن ولا يوم من تلك الأيام مثل يوم دارة جلجل، يريد أن ذلك اليوم كان أحسن الأيام وأتمها، فأفادت لا سيما التفضيل والتخصيص.

ويَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَي مَطِيَّتِـي

فَيَا عَجَباً مِنْ كُوْرِهَا المُتَحَمَّـلِ

العذراء من النساء: البكر التي لم تفتض، والجمع العذارى. الكور: الرحل بأداته، والجمع الأكوار والكيران؛ ويروى: من رحلها المتحمل، المتحمل: الحمل. فتح يوم مع كونه معطوفًا على مجرور أو مرفوع وهو يومٌ أو يومٍ بدارة جلجل؛ لأنه بناه على الفتح لما أضافه إلى مبني وهو الفعل الماضي، وذلك قوله: عقرت، وقد يبنى المعرب إذا أضيف إلى مبني،
قوله: فيا عجبًا، الألف فيه بدل من ياء الإضافة، وكان الأصل فيا عجبي، وياء الإضافة يجوز قلبها ألفًا في النداء نحو يا غلامًا في يا غلامي، فإن قيل: كيف نادى العجب وليس مما يعقل؟ قيل في جوابه: إن المنادى محذوف، والتقدير: يا هؤلاء أو يا قوم اشهدوا عجبي من كورها المتحمل فتعجبوا منه، فإنه قد جاوز المدى والغاية القصوى؛ وقيل: بل نادى العجب اتساعًا ومجازًا، فكأنه قال: يا عجبي تعال واحضر فإن هذا أو إن إتيانك وحضورك.

فَظَلَّ العَذَارَى يَرْتَمِيْنَ بِلَحْمِهَـا

وشَحْمٍ كَهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّـلِ

يقال: ظل زيد قائمًا إذا أتى عليه النهار وهو قائم، وبات زيد نائمًا إذا أتى عليه الليل وهو نائم، وطفق زيد يقرأ القرآن إذا أخذ فيه ليلًا ونهارًا. الْهُدَّاب والهدب: اسمان لما استرسل من الشيء نحو ما استرسل من الأشفار من الشعر ومن أطراف
الأثواب، الواحدة هدابة وهدبة، ويجمع الهدب على الأهدب. الدمقس والمدقس: الإبريسم1، وقيل: هو الأبيض منه خاصة.

يقول: فجعلن يلقي بعضهن إلى بعض شواء المطية استطابة أو توسعًا فيه طول نهارهن؛ وشبه شحمها بالإبريسم الذي أجيد فتله وبولغ فيه، وقيل هو القز. الشحم: السمن.

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْـزَةٍ

فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلاَتُ إنَّكَ مُرْجِلِي

الخدر: الهودج، والمراد بالخدر في البيت الهودج. عنيزة: اسم عشيقته وهي ابنة عمه، وقيل: هو لقب لها واسمها فاطمة، وقيل: بل اسمها عنيزة وفاطمة غيرها. قوله: فقالت لك الويلات، أكثر الناس على أن هذا دعاء منها عليه، والويلات: جمع ويلة، والويلة والويل: شدة العذاب، وزعم بعضهم أنه دعاء منها له في معرض الدعاء عليه، والعرب تفعل ذلك صرفًا لعين الكمال عن المدعو عليه. ومنه قولهم: قاتله الله ما أفصحه!
يقول: ويوم دخلت هودج عنيزة فدعت عليّ أو دعت لي في معرض الدعاء عليّ، وقالت: إنك تصيرني راجلة لعقرك ظهر بعيري، يريد أن هذا اليوم كان من محاسن الأيام الصالحة التي نلتها منهن أيضًا.

تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعـاً

عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

الغبيط: ضرب من الرِّحال، وقيل: بل ضرب من الهوادج، الباء في قوله: بنا للتعدية، وقد أمالنا الغبيط جميعًا. عقرت بعيري أي: أدبرت ظهره، من قولهم: سرج مُعْقِر وَعُقَر وعُقَرة يعقر الظهر. ومنه قولهم: كلب عقور، ولا يقال في ذي الروح إلا عقور.

يقول: كانت هذه المرأة تقول لي في حال إمالة الهودج أو الرحل إيانا: قد أدبرت ظهر بعيري فانزل عن البعير.

فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَـهُ

ولاَ تُبْعـِدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّـلِ

جعل العشيقة بمنزلة الشجرة، وجعل ما نال من عناقها وتقبيلها وشمها بمنزلة الثمرة لتناسب الكلام. المعلل: المكرر، من قولهم: علّه يعِلَه ويعلّه إذا كرر سقيه وعلله للتكثير والتكرير. المعلل: الملهي، من قولك: عللت الصبي بفاكهة أي ألهيته بها، وقد روي في البيت بكسر اللام وفتحها، والمعنى على ما ذكرنا.

يقول: فقلت للعشيقة بعد أمرها إياي بالنزول سيري وأرخي زمام البعير ولا تبعديني مما أنال من عناقك وشمك وتقبيلك الذي يلهيني أو الذي أكرره، ويقال لمن على الدابة سار يسير كما قال للماشي كذلك؛ قال: سيري وهي راكبة. الجنى: اسم لما يجتني من الشجر، والجني المصدر، يقال: جنيت الثمرة واجتنيتها.

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِـعٍ

فَأَلْهَيْتُهَـا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْـوِلِ

خفض فمثلك بإضمار رُبّ، أراد فرب امرأة حبلى. الطروق: الإتيان ليلًا، والفعل طرق يطرق. المرضع: التي لها ولد رضيع، والمعول في هذا الباب على السماع إذ هو غير منقاد للقياس. لهيت عن الشيء ألهى عنه لهيًا إذا شغلت عنه وسلوت، وألهيته إلهاء إذا شغلته. التميمة: العوذة

يقول: فربَّ امرأة حبلى قد أتيتها ليلًا وربّ امرأة ذات رضيع أتيتها ليلًا فشغلتها عن ولدها الذي علقت على العوذة وقد أتى عليه حول كامل، أو قد حبلت أمه بغيره فهي ترضعه على حبلها، وإنما خص الحبلى والمرضع؛ لأنهما أزهد النساء في الرجال وأقلهن شغفًا بهم وحرصًا عليهم، فقال: خدعت مثلهما مع اشتغالهما بأنفسهما فكيف تتخلصين مني؟ قوله: فمثلك، يريد به فرُبَّ امرأة مثل عنيزة في ميله إليها وحبه لها؛ لأن عنيزة في هذا الوقت كانت عذراء غير حبلى ولا مرضع.

إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ

بِشَـقٍّ وتَحْتِي شِقُّهَا لَمْ يُحَـوَّلِ

شقّ الشيء: نصفه. يقول: إذا ما بكى الصبي من خلف المرضع انصرفت إليه بنصفها الأعلى فأرضعته وأرضته وتحتي نصفها الأسفل لم تحوله عني، وصف غاية ميلها إليه وكلفها3 به حيث لم يشغلها عن مرامه ما يشغل الأمهات عن كل شيء.

ويَوْماً عَلَى ظَهْرِ الكَثِيْبِ تَعَـذَّرَتْ

عَلَـيَّ وَآلَـتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّـلِ

الكثيب: رمل كثير، والجمع أكثبة وكُثُب وكثبان. التعذر: التشدد والالتواء والإيلاء والائتلاء والتألّي: الحلف، يقال: آلى وائتلى وتأَلّى إذا حلف، واسم اليمين الأَلِيَّة والأَلوة والأُلوة معًا، والْحَلْف المصدر. والْحَلِف بكسر اللام. الاسم. الحلفة: المرة. التحلل في اليمين: الاستثناء. نصب حلفة لأنها حلت محل الإيلاء كأنه قال: وآلت إيلاء والفعل يعمل فيما وافق مصدره في المعنى كعمله في مصدر نحو قولهم: إني لأشنؤه1 بغضًا وإني لأبغضه كراهية. يقول: وقد تشددت العشيقة والْتَوت، وساءت عشرتها يومًا على ظهر الكثيب المعروف، وحلفت حلفًا لم تستثن فيه أنها تصارمني وتهاجرني، هذا، ويحتمل أن يكون صفة حال اتفقت له مع عنيزة، ويحتمل أنها اتفقت مع المرضع التي وصفها.

أفاطِـمَ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّـلِ

وإِنْ كُنْتِ قَدْ أزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي

مهلًا: أي رفقًا. الإدلال والتدليل: أي يثق الإنسان بحب غيره إياه فيؤذيه على حسب ثقته به، والاسم الدّالة والدال والدلال. أزمعت الأمر وأزمعت عليه: وطّنت نفسي عليه.

يقول: يا فاطمة دعي بعض دلالك وإن كنت وطّنت نفسك على فراقي فأجملي في الهجران. نصب بعض؛ لأن مهلًا ينوب مناب دع. الصرم: المصدر، يقال: صرمت الرجل أصرمه صرمًا إذا قطعت كلامه، والصرم الاسم. فاطمة: اسم المرضع أو عنيزة، وعنيزة لقب لها فيما قيل.

أغَـرَّكِ مِنِّـي أنَّ حُبَّـكِ قَاتِلِـي

وأنَّـكِ مَهْمَا تَأْمُرِي القَلْبَ يَفْعَـلِ

يقول: قد غرك مني كون حبك قاتلي وكون قلبي منقادًا لك بحيث مهما أمرته بشيء فعله. وألف الاستفهام دخلت على هذا القول للتقرير لا للاستفهام والاستخبار، يريد أنهم خير هؤلاء، وقيل: بل معناه قد غرك مني أنك علمت أن حبك مُذلّلي، والقتل التذليل، وأنك تملكين فؤادك فمهما أمرت قلبك بشيء أسرع مرادك فتحسبين أني أملك عنان قلبي كما ملكت عنان قلبك حتى يسهل علي فراقك كما سهل عليك فراقي، ومن الناس من حمله على مقتضى الظاهر وقال: معنى البيت: أتوهمت وحسبت أن حبك يقتلني أو أنك مهما أمرت قلبي بشيء فعله؟ قال: يريد أن الأمر ليس على ما خيل إليك فإني مالك زمام قلبي، والوجه الأمثل هو الوجه الأول وهذا القول أرذل الأقوال، لأن مثل هذا الكلام لا يستحسن في النسيب بالحبيب.

وإِنْ تَكُ قَدْ سَـاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَـةٌ

فَسُلِّـي ثِيَـابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُـلِ

من الناس من جعل الثياب في هذا البيت بمعنى القلب، فالمعنى على هذا القول: إن ساءك خلق من أخلاقي وكرهت خصلة من خصالي فردي على قلبي أفارقك، ولا معنى على هذا القول: استخرجي قلبي من قلبك يفارقه. النسول: سقوط الريش والوبر والصوف والشعر، يقال: نسل ريش الطائر ينسل نسولًا، واسم ما سقط النسيل والنسال؛ ومنهم من رواه تنسلي وجعل الانسلاء بمعنى التسلي، والرواية الأولى أولاهما بالصواب، ومن الناس من حمل الثياب في البيت على الثياب الملبوسة وقال: كنّى بتباين الثياب وتباعدها عن تباعدهما، وقال: إن ساءك شيء من أخلاقي فاستخرجي ثيابي من ثيابك أي: ففارقيني وصارميني كما تحبين فإني لا أوثر إلا ما أثرت ولا أختار إلا ما اخترت لانقيادي لك وميلي إليك، فإذا آثرتِ فراقي آثرتُه وإن كان سبب هلاكي وجالب موتي.

وَمَا ذَرَفَـتْ عَيْنَاكِ إلاَّ لِتَضْرِبِـي

بِسَهْمَيْكِ فِي أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّـلِ

ذرف الدمع ذريفًا وذرفانًا وتذرافًا إذا سال، ثم يقال: ذرفت [عينه] ، كما يقال: دمعت عينه، وللأئمة في البيت قولان، قال الأكثرون: استعار لِلَحْظِ عينيها ودمعهما اسم السهم لتأثيرهما في القلوب وجرحهما إياها كما أن السهام تجرح الأجسام وتؤثر فيها. والأعشار من قولهم: برمة أعشار إذا كانت قطعًا، ولا واحد لها من لفظها. المقتّل: المذلل غاية التذليل، والقتل في الكلام التذليل، وتلخيص المعنى على هذا القول: وما دمعت عيناك وما بكيت إلا لتصيدي قلبي بسهمي دمع عينيك وتجرحي قطع قلبي الذي ذللته بعشقك غاية التذليل، أي نكايتهما في قلبي نكاية السهم في المرمى، وقال آخرون: أراد بالسهمين المعلّى والرقيب من سهام الميسر. والجزور1 يقسم على عشرة أجزاء، فللمعلّى سبعة أجزاء وللرقيب ثلاثة أجزاء، فمن فاز بهذين القدحين فقد فاز بجميع الأجزاء وظفر بالجزور، وتلخيص المعنى على هذا القول: وما بكيت إلا لتملكي قلبي كله وتفوزي بجميع أعشاره وتذهبي بكله والأعشار على هذا القول جمع عشر؛ لأن أجزاء الجزور عشرة، والله أعلم

وبَيْضَـةِ خِدْرٍ لاَ يُرَامُ خِبَاؤُهَـا

تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَـلِ

أي: ورب بيضة خدر، يعني: ورب امرأة لزمت خدرها، ثم شبهها بالبيض، والنساء يشبهن بالبيض من ثلاثة أوجه: أحدها بالصحة والسلامة عن الطمث والثاني: في الصيانة والستر؛ لأن الطائر يصون بيضه ويحضنه، والثالث: في صفاء اللون ونقائه؛ لأن البيض يكون صافي اللون نقيه إذا كان تحت الطائر، وربما شبهت النساء ببيض النعام، وأريد أنهن بيض تشوب ألوانهن صفرة يسيرة وكذلك لون بيض النعام، الرَّوم: الطلب والفعل منه يروم: الخباء: البيت إذا كان من قطن أو وبر أو صوف أو شعر، والجمع الأخبية. التمتع: الانتفاع. وغير يروى بالنصب والجر فالجر على صفة لهو، والنصب على الحال من التاء في تمتعت.

ويقول: وربّ امرأة كالبيض في سلامتها من الافتضاض، أو في الصون والستر أو في صفاء اللون ونقائه، أو في بياضها المشوب بصفرة يسيرة ملازمة خدرها غير خرَّاجة ولَّاجة انتفعت باللهو بها على تمكث وتلبث لم أعجل عنها ولم أشغل عنها بغيرها.

تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً إِلَيْهَا وَمَعْشَـراً

عَلَّي حِرَاصاً لَوْ يُسِرُّوْنَ مَقْتَلِـي

لأحراس يجوز أن يكون جمع حارس بمنزلة صاحب وأصحاب وناصر وأنصار وشاهد وأشهاد، ويجوز أن يكون جمع حرس بمنزلة جبل وأجبال وحجر وأحجار، ثم يكون الحرّس جمع حارس بمنزلة خادم وخدّم وغائب وغيّب وطالب وطلّب وعابد وعبّد. والمعشر: القوم. والجمع المعاشر. الحراص: جمع حريص، مثل ظراف وكرام ولئام في جمع ظريف وكريم ولئيم. الإسرار: الإظهار والإضمار جميعًا؛ وهو من الأضداد، ويروى: لو يشرون مقتلي بالشين المعجمة وهو الإظهار لا غير.

يقول: تجاوزت في ذهابي إليها وزيارتي إياها أهوالًا كثيرةً وقومًا يحرسونها وقومًا حراصًا على قتلي لو قدروا عليه في خفية؛ لأنهم لا يجترئون على قتلي جهارًا، أو حراصًا على قتلي لو أمكنهم قتلي ظاهرًا لينزجر ويرتدع غيري عن مثل صنيعي؛ وحمله على الأول أولى؛ لأنه كان ملكًا والملوك لا يقدر على قتلهم علانية.

إِذَا مَا الثُّرَيَّا فِي السَّمَاءِ تَعَرَّضَتْ

تَعَـرُّضَ أَثْنَاءَ الوِشَاحِ المُفَصَّـلِ

التعرض: الاستقبال، والتعرض إبداء العرض، وهو الناحية، والتعرض الأخذ في الذهاب عرضًا. الأثناء: النواحي، والأثناء: الأوساط، يقول: تجاوزت إليها في وقت إبداء الثريا عرضها في السماء كإبداء الوشاح الذي فصل بين جواهره وخرزه بالذهب أو غيره عرضه.

يقول: أتيتها عند رؤية نواحي كواكب الثريا في الأفق الشرقي، ثم شبه نواحيها بنواحي جواهر الوشاح، هذا أحسن الأقوال في تفسير البيت، ومنهم من قال: شبه كواكب الثرايا بجواهر الوشاح؛ لأن الثريا تأخذ وسط السماء كما أن الوشاح يأخذ وسط المرأة المتوشحة، ومنه من زعم أنه أراد الجوزاء فغلط وقال: الثريا لأن التعرّض للجوزاء دون الثريا، وهو قول محمد بن سلام الجمحي، وقال بعضهم: تعرض الثريا أنها إذا بلغت كبد السماء في العرض ذاهبة ساعة كما أن الوشاح يقع مائلًا إلى أحد شِقَّيْ المتوشحة به.

فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَوْمٍ ثِيَابَهَـا

لَـدَى السِّتْرِ إلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّـلِ

نضا الثياب ينضوها نضوًا إذا خلعها، ونضّاها يُنضِّيها إذا أراد المبالغة، اللِبسة: حالة اللابس وهيئة لبسه الثياب بمنزلة الْجِلسة والقِعدة والركبة والرِدية والإزرة1. المتفضل: اللابس ثوبًا واحدًا إذا أراد الخفة في العمل والفضلة والفضل اسمان لذلك.

يقول: أتيتها وقد خلعت ثيابها عند النوم غير ثوب واحد تنام فيه وقد وقفت عند الستر مترقبة ومنتظرة، وإنما خلعت الثياب لتري أهلها أنها تريد النوم.

فَقَالـَتْ : يَمِيْنَ اللهِ مَا لَكَ حِيْلَةٌ

وَمَا إِنْ أَرَى عَنْكَ الغَوَايَةَ تَنْجَلِـي

اليمين: الحلف. الغواية والغي: الضلالة، والفعل: غوي يغوى غواية، ويروى العماية وهي العمى. الانجلاء: الانكشاف، وجلوته: كشفته فانجلى. الحيلة أصلها حولة فأبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. وإن في قوله وما إن زائدة، يقول: فقالت الحبيبة: أحلف بالله ما لك حيلة، أي: ما لي لدفعك عني حيلة، وقيل: بل معناه ما لك حجة في أن تفضحني بطروقك إياي وزيارتك ليلًا، يقال: ما له حيلة أي: ما له عذر وحجة، وما أرى ضلال العشق وعماه منكشفًا عنك، تحرير المعنى أنها قالت: ما لي سبيل إلى دفعك أو ما لك عذر في زيارتي وما أراك نازعًا عن هواك وغيك، ونصب يمين الله كقولهم: الله لأقومن، على إضمار الفعل، وقال الرواة: هذا أغنج بيت في الشعر.

خَرَجْتُ بِهَا أَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَـا

عَلَـى أَثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّـلِ

خرجت بها أفادت الباء تعدي الفعل، والمعنى: أخرجتها من خدرها، الأَثَرُ والإثر واحد، وأما الأثر. بفتح الهمزة وسكون الثاء. فهو فرند السيف. ويروى: على إثرنا أذيال، والذيل يجمع على الأذيال والذيول. المرط عند العرب. كساء من خز أو مرعزى1 أو من صوف، وقد تسمى الملاءة مرطًا أيضًا، والجمع المروط. المرحَّل: المنقش بنقوش تشبه رحال الإبل، يقال: ثوب مرحل وفي هذا الثوب ترحيل.

يقول: فأخرجتها من خدرها وهي تمشي وتجر مرطها على أثرنا لتُعَفِّي به آثار أقدامنا، والمرط كان موشّي بأمثال الرحال، ويروى: نير مرط، والنير: علم الثوب.

فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَـى

بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ

يقال: أجزت المكان وجزته إذا قطعته إجازة وجوازًا، الساحة تجمع على الساحات والساح والسوح مثل قارة وقارات وقار وقور. والقارة: الجبيل الصغير. الحي: القبيلة، والجمع الأحياء، وقد تسمى الحلة حيًّا. الانتحاء والتنحي والنحو: الاعتماد على الشيء، ذكره ابن الاعرابي. البطن: مكان مطمئن حوله أماكن مرتفعة والجمع أبطن وبطون وبطنان. الخبت: أرض مطمئنة. الحقف: رمل مشرف معوج، والجمع أحقاف وحقاف، ويروى ذي قفاف وهي جمع قف: وهو ما غلظ وارتفع من الأرض ولم يبلغ أن يكون جبلًا. العقنقل: الرمل المنعقد المتلبد. وأصله من العقل وهو الشد
يقول: فلما جاوزنا ساحة الحلة وخرجنا من بين البيوت وصرنا إلى أرض مطمئنة بين حقاف، يريد مكانًا مطمئنًا أحاطت به حقاف أو قفاف منعقدة؛ والعقنقل من صفة الخبث لذلك لم يؤنثه، ومنهم من جعله من صفة الحقاف وأحلّه محل الأسماء وعطله من علامة التأنيث لذلك. وقوله: انتحى بنا بطن خبت أسند الفعل إلى بطن خبت والفعل عند التحقيق لهما ولكنه ضرب من الاتساع في الكلام، والمعنى صرنا إلى مثل هذا المكان؛ وتلخيص المعنى: فلمّا خرجنا من مجمع بيوت القبيلة وصرنا إلى مثل هذا الموضع طاب حالنا وراق عيشنا.

هَصَرْتُ بِفَوْدَي رَأْسِهَا فَتَمَايَلَـتْ

عَليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلْخَـلِ

الهصر: الجذب والفعل هصر يهصر. الفودان جانبا الرأس. تمايلت أي: مالت. ويروى بغصني دومة، والدوم: شجر المقل1، واحدتها دومة، شبهها بشجرة الدوم وشبه ذؤابتيها2 بغصنين وجعل ما نال منها كالثمر الذي يجتنى من الشجر، ويروى إذا قلت هاتي ناوليني تمايلت، والنول والإنالة والتنويل: الإعطاء، ومنه قيل للعطية نوال. هضيم الكشح: ضامر الكشح، والكشح: منقطع الأضلاع، والجمع كشوح وأصل الهضم الكسر، والفعل هضم يهضم، وإنما قيل لضامر البطن هضيم الكشح؛ لأنه يَدِقّ بذلك الموضع من جسده فكأنه هضيم عن قرار الردف والجنبين والوركين. ريّا: تأنيث الريان. المخلخل: موضع الخلخال من الساق، والمسوّر: موضع السوار من الذراع، والمقلد: موضع القلادة من العنق, والمقرّط: موضع القرط من الأذن. عبر عن كثرة لحم الساقين وامتلائهما بالري. هصرت جواب لَمَّا من البيت الأول عن البصريين، وأما الرواية الثالثة وهي: إذا قلت فإن الجواب مضمر محذوف عن تلك الرواية على ما مرّ ذكره في البيت الذي قبله.

يقول: لَمّا خرجنا من الحلة وأمنّا الرقباء جذبت ذؤابتيها إلَيّ فطاوعتني فيما رمت منها ومالت عليّ مسعفة بطلبتي في حال ضمر كشحيها وامتلاء ساقيها باللحم، والتفسير على الرواية الثالثة: إذا طلبت منها ما أحببت وقلت: أعطيني سؤلي كان ما ذكرنا، ونصب هضيم الكشح على الحال ولم يقل هضيمة الكشح؛

مُهَفْهَفَـةٌ بَيْضَـاءُ غَيْرُ مُفَاضَــةٍ

تَرَائِبُهَـا مَصْقُولَةٌ كَالسَّجَنْجَــلِ

المهفهفة: اللطيفة الخصر الضامرة البطن. المفاضة: المرأة العظيمة البطن المسترخية اللحم. الترائب جمع التريبة: وهي موضع القلادة من الصدر. السقل والصقل، بالسين الصاد: إزالة الصدأ والدنس وغيرهما. والفعل منه سقل يسقل وصقل يصقل. السجنجل: المرآة، لغة رومية عربتها العرب، وقيل بل هو قطع الذهب والفضة.

يقول: هي امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن غير عظيمة البطن ولا مسترخيته، وصدرها بَرَّاق اللون متلألئ الصفاء كتلألؤ المرآة.

كَبِكْرِ المُقَـانَاةِ البَيَاضَ بِصُفْــرَةٍ

غَـذَاهَا نَمِيْرُ المَاءِ غَيْرُ المُحَلَّــلِ

البكر من كل صنف: ما لم يسبقه مثله. المقاناة: الخلط يقال: قانيت بين الشيئين إذا خلطت أحدهما بالآخر، والمقاناة في البيت مصوغة للمفعول دون المصدر. النمير: الماء النامي في الجسد. المحلّل ذكر أنه من الحلول، وذكر أنه من الحل، ثم إن للأئمة في تفسير البيت ثلاثة أقوال، أحدها: أن المعنى كبكر البيض التي قوني بياضها بصفرة، يعني بيض النعام وهي بيض تخالط بياضها صفرة يسيرة، شبه لون العشيقة بلون بيض النعام في أن في كل منهما بياضًا خالطته صفرة، ثم رجع إلى صفتها فقال: غذاها نمير عذب لم يكثر حلول الناس عليه فيكدره ذلك، يريد أنه عذب صاف، وإنما شرط هذا؛ لأن الماء من أكثر الأشياء تأثيرًا في الغذاء لفرط الحاجة إليه فإذا عذب وصفا حسن موقعه في غذاء شاربه؛ وتلخيص المعنى على هذا القول: إنها بيضاء تشوب بياضها صفرة وقد غذاها ماء نمير عذب صافٍ، والبياض الذي شابته صفرة أحسن ألوان النساء عند العرب.

والثاني: أن المعنى كبكر الصدفة التي خولط بياضها بصفرة، وأراد ببكرها درتها التي لم ير مثلها، ثم قال: قد غذا هذه الدرة ماء نمير وهي غير محللة لمن رامها؛ لأنها في قعر البحر لا تصل إليها الأيدي، وتلخيص المعنى على هذا القول: إنه شبهها في صفاء اللون ونقائه بدرة فريدة تضمنتها صدفة بيضاء شابت بياضها صفرة وكذلك لون الصدفة، ثم ذكر أن الدرة التي أشبهتها حصلت في ماء نمير لا تصل إليها أيدي طلابها، وإنما شرط النمير والدر لا يكون إلا في الماء الملح؛ لأن الملح له بمنزلة العذب لنا إذ صار سبب نمائه كما صار العذب سبب نمائنا.

والثالث: أنه أراد كبكر البرديّ1 التي شاب بياضها صفرة وقد غذا البردي ماء نمير لم يكثر حلول الناس عليه، وشرط ذلك ليسلم الماء عن الكدر وإذا كان كذلك لم يغير لون البردي، والتشبيه من حيث أن بياض العشيقة خالطته صفرة كما خالطته بياض البردي. ويروى البيت بنصب البياض وخفضه، وهما جيدان، بمنزلة قولهم: زيد الحسن الوجه، والحسن الوجه، بالخفض على الإضافة والنصب على التشبيه كقولهم: زيد الضارب الرجل.

تَـصُدُّ وتُبْدِي عَنْ أسِيْلٍ وَتَتَّقــِي

بِـنَاظِرَةٍ مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مُطْفِـلِ

الصد والصدود: الإعراض والصد أيضًا الصرف والدفع، والفعل منه صدَّ يصُدُّ، والإصداد الصرف أيضًا. الإبداء: الإظهار. الأسالة: امتداد وطول في الخد وقد أسل أسالة فهو أسيل. الاتقاء: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقيته بترس أي: جعلت الترس حاجزًا بيني وبينه. وجرة: موضع، الْمُطفِل: التي لها طفل. الوحش: جمع وحشي مثل زنج وزنجي وروم ورومي يقول: تعرض العشيقة عني وتظهر خدًّا أسيلًا، وتجعل بيني وبينها عينًا ناظرة من نواظر وحش هذا الموضع التي لها أطفال، شبهها في حسن عينيها بظبية مُطْفِلِ أو بمهاة مطفل، وتلخيص المعنى: أنها تعرض عنا فتظهر في إعراضها خدًّا أسيلا وتسقبلنا بعين مثل عيون ظباء وجرة أو مهاها واللواتي لها أطفال، وخصهن لنظرهن إلى أولادهن بالعطف والشفقة وهي أحسن عيونًا في تلك الحال منهن في سائر الأحوال. قوله: عن أسيل، أي عن خد أسيل، فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه كقوله: مررت بعاقل، أي: بإنسان عاقل، وقوله: من وحش وجرة، أي: من نواظر وحش وجرة، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه

وجِـيْدٍ كَجِيْدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِـشٍ

إِذَا هِـيَ نَصَّتْـهُ وَلاَ بِمُعَطَّــلِ

الرئم: الظبي الأبيض الخالص البياض، والجمع آرام. النص: الرفع، ومنه سمي ما تُجلى عليه العروس مِنَصَّة، ومنه النص في السير وهو حمل البعير على سير شديد، ونصصت الحديث أنصه نصًّا: رفعته. الفاحش: ما جاوز القدر المحمود من كل شيء.

يقول: وتبدي عن عنق كعنق الظبي غير متجاوز قدره المحمود إذا ما رفعت عنقها، وهو غير معطل، عن الحلي، فشبه عنقها بعنق الظبية في حال رفعها عنقها، ثم ذكر أنه لا يشبه عنق الظبي في التعطل عن الحلي.

وفَـرْعٍ يَزِيْنُ المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِــمٍ

أثِيْـثٍ كَقِـنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِــلِ

الفرع: الشعر التام، والجمع فروع، ورجل أفرع وامرأة فرعاء. الفاحم: الشديد السواد، مشتق من الفحم، يقال: هو فاحم بَيِّنَ الفحومة. الأثيث: الكثير، والأثاثة: الكثرة، يقال: أثّ الشعر والنبت. القنو يجمع على الأقناء والقنوان. العثكول والعثكال قد يكونان بمعنى القنو وقد يكونان بمعنى قطعة من القنو1، والنخلة المتعثكلة: التي خرجت عثاكيلها أي: قنوانها
يقول: وتبدي عن شعر طويل تام يزين ظهرها إذا أرسلته عليه، ثم شبه ذؤابتيها بقنو نخلة أخرجت قنوانها، والذوائب تشبه بالعناقيد، والقنوان يراد به تجعدها وأثاثتها.

غَـدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إلَى العُــلاَ

تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنَّى وَمُرْسَــلِ

الغدائر: جمع الغديرة: وهي الخصلة من الشعر، الاستشزار: الارتفاع والرفع جميعًا، فيكون الفعل منه مرة لازمًا ومرة متعديًا، فمن روى مستشزرات بكسر الزاي جعله من اللازم، ومن روى بفتح الزاي جعله من المتعدي. العقيصة: الخصلة المجموعة من الشعر، والجمع عقص وعقائص، والفعل من الضلال والضلالة ضل يضِل ويضَلّ جميعًا.

يقول: ذوائبها وغدائرها مرفوعات أو مرتفعات إلى فوق، يراد به شدها على الرأس بخيوط، ثم قال: تغيب تعاقيصها في شعر مثنى وبعضه مرسل، أراد به وفور شعرها، والتعقيص التجعيد.

وكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيْلِ مُخَصَّــرٍ

وسَـاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّــلِ

الجديل: خطام1 يتخذ من الأدم، والجمع جدل. المخصر: الدقيق الوسط، ومنه نعل مخصرة. الأنبوب: ما بين العقدتين من القصب وغيره، والجمع الأنابيب السَّقِيِّ ههنا: بمعنى المسقي كالجريح بمعنى المجروح، والْجَنِي بمعنى المجني.

يقول: وتبدي عن كشح ضامر يحكي في دقته خطامًا متخذًا من الأدم، وعن ساق يحكي في صفاء لونه أنابيب بردي بين نخل وقد ذللت بكثرة الحمل فأظلت أغصانها هذا البردي، شبه ضمور بطنها بمثل هذا الخطام، وشبه صفاء لون ساقها ببردي بين نخيل تظله أغصانها، وإنما شرط ذلك ليكون أصفى لونًا وأنقى رونقًا وتقدير قوله كأنبوب السقي كأنبوب النخل المسقي، ومنهم من جعل السقي نعتًا للبردي أيضًا؛ والمعنى على هذا القول: كأنبوب البردي المسقي المذلل بالإرواء.

وتُضْحِي فَتِيْتُ المِسْكِ فَوْقَ فِراشِهَـا

نَئُوْمُ الضَّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّـلِ

الإضحاء: مصادفة الضحى، وقد يكون بمعنى الصيرورة أيضًا، ويقال أضحى زيد غنيًّا أي: صار ولا يراد به أنه صادف الضحى على صفة الغنى، قوله: لم تنتطق عن تفضل، أي بعد تفضل كما يقال: استغنى فلان عن فقره أي: بعد فقره؛ والتفضل: لبس الفضلة، وهي ثوب واحد يلبس للخفة في العمل.

يقول: تصادف العشيقة الضحى ودقائق المسك فوق فراشها الذي باتت عليه، وهي كثيرة النوم في وقت الضحى، ولا تشد وسطها بنطاق بعد لبسها ثوب المهنة، يريد أنها مخدومة منعَّمة تُخدم، ولا تَخدم، وتلخيص المعنى: أن فتات المسك يكثر على فراشها وأنها تكفى أمورها فلا تباشر عملًا بنفسها. وصفها بالدعة والنعمة وخفض العيش وأن لها من يخدمها ويكفيها أمورها.

وتَعْطُـو بِرَخْصٍ غَيْرَ شَثْنٍ كَأَنَّــهُ

أَسَارِيْعُ ظَبْيٍ أَوْ مَسَاويْكُ إِسْحِـلِ

العطو: التناول والفعل عطا يعطو عطوًا، والإعطاء المناولة، والتعاطي التناول، والمعاطاة الخدمة، والتعطية مثلها. الرخص: اللين الناعم. الشثن: الغليظ الكز2، وقد شن شثونة الأسروع واليسروع دود يكون في البقل3 والأماكن الندية، تشبه أنامل النساء به، والجمع الأساريع واليساريع. ظبي: موضع بعينه. المساويك جمع المسواك. الإسحل: شجرة تدق أغصانها في استواء، تشبه الأصابع بها في الدقة والاستواء.

يقول: وتتناول الأشياء ببنان رخص ليّن ناعم غير غليظ ولا كز، كأن تلك الأنامل تشبه هذا الصنف من الدود أو هذا الضرب من المساويك وهو المتخذ من أغصان هذا الشجر المخصوص المعيّن.

تُضِـيءُ الظَّلامَ بِالعِشَاءِ كَأَنَّهَــا

مَنَـارَةُ مُمْسَى رَاهِـبٍ مُتَبَتِّــلِ

الإضاءة: قد يكون الفعل المشتق منها لازمًا وقد يكون متعديًّا، تقول: أضاء الله الصبح فأضاء، والضَّوء والضُّوء واحد، والفعل ضاء ضوءًا، وهو لازم. المنارة: المسرجة، الجمع المناور والمنائر. الممسى: بمعنى: الإمساء والوقت جميعًا؛ المتبتل: المنقطع إلى الله بنيته وعمله، والبتل: القطع، ومنه قيل: مريم البتول لانقطاعها عن الرجال واختصاصها بطاعة الله تعالى.
يقول: تضيء العشيقة بنور وجهها ظلام الليل فكأنها مصباح راهب منقطع عن الناس، وخص مصباح الراهب؛ لأنه يوقده ليهتدي به عند الضلال فهو يضيئه أشد الإضاءة، يريد أن نور وجهها يغلب ظلام الليل كما أن نور مصباح الراهب يغلبه

إِلَى مِثْلِهَـا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَــةً

إِذَا مَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ

لاسبكرار: الطول والامتداد. الدرع: هو قميص المرأة، وهو مذكر، ودرع الحديد مؤنثة، والجمع أدرع ودروع. الْمِجْوَل: ثوب تلبسه الجارية الصغيرة.

يقول: إلى مثلها ينبغي أن ينظر العاقل كلفًا بها وحنينًا إليها إذا طال قدّها وامتدت قامتها بين من تلبس الدرع وبين من تلبس المجول، أي بين اللواتي أدركن الحلم وبين اللواتي لم يدركن الحلم، يريد أنها طويلة القد مديدة القامة وهي بعد لم تدرك الحلم وقد ارتفعت عن سن الجواري الصغار، قوله: بين درع ومجول، تقديره: بين لابسة درع ولابسة مجول، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنْ الصِّبَـا

ولَيْـسَ فُؤَادِي عَنْ هَوَاكِ بِمُنْسَـلِ

سلا فلان عن حبيبه يسلو سلوًا، وسلى يسلي سًلِيًّا، وتسلّى تسليًا، وانسلى انسلاء أي زال حبه من قلبه أو زال حزنه. العماية والعمى واحد والفعل عمي يعمى. زعم أكثر الأئمة أن في البيت قلبًا تقديره: تسلت الرجالات عن عمايات الصبا أي خرجوا من ظلماته وليس فؤادي بخارج من هواها.

وزعم بعضهم أن عن في البيت بمعنى بعد، تقديره: انكشفت وبطلت ضلالات الرجال بعد مضي صباهم، وفؤادي بعد في ضلالة هواها، وتلخيص المعنى: أنه رغم أن عشق العشاق قد بطل وزال وعشقه إياها باقٍ ثابت ولا يزول ولا يبطل.

ألاَّ رُبَّ خَصْمٍ فِيْكِ أَلْوَى رَدَدْتُـهُ

نَصِيْـحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَــلِ

الألوى: الشديد الخصومة كأنه يلوي خصمه عن دعواه. النصيح: الناصح. التعذال والعَذْلُ والعَذَلُ: اللوم، والفعل عذل يعذله. الألو والائتلاء: التقصير، والفعل: ألا يألوا وائتلى يأتلي.

يقول: ألا ربّ خصم شديد الخصومة كان ينصحني على فرط لومه إياي على هواك غير مقصر في النصيحة واللوم رددته ولم أنزجر عن هواك بعذله ونصحه. وتحرير المعنى أنه يخبرها ببلوغ حبه إياها الغاية القصوى، حتى أنه لا يرتدع عنه بردع ناصح ولا ينجع1 فيه لوم لائم، وتقدير لفظ البيت: ألا رُبّ خصم ألوى نصيح على تعذاله غير مؤتل رددته.

ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدُوْلَــهُ

عَلَيَّ بِأَنْـوَاعِ الهُـمُوْمِ لِيَبْتَلِــي

شبه ظلام الليل في هوله وصعوبته ونكارة أمره بأمواج البحر. السدول: الستور، الواحد منها سدل. الإرخاء: إرسال الستر وغيره. الابتلاء: الاختبار. الهموم جمع الهم. بمعنى الحزن وبمعنى الهمة. الباء في قوله: بأنواع الهموم بمعنى مع.

يقول: وربّ ليلٍ يحاكي أمواج البحر في توحشه ونكارة أمره وقد أرخى عليّ ستور ظلامه مع أنواع الأحزان، أو مع فنون الهم، ليختبرني أأصبر على ضروب الشدائد وفنون النوائب أم أجزع منها. لما أمعن في النسيب من أول القصيدة إلى هنا انتقل منه إلى التمدح بالصبر والْجَلَد.

فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّـى بِصُلْبِــهِ

وأَرْدَفَ أَعْجَـازاً وَنَاءَ بِكَلْكَــلِ

تمطى أي: تمدد، ويجوز أن يكون التمطي مأخوذًا من المطا، وهو الظهر، فيكون التمطي مد الظهر، ويجوز أن يكون منقولًا من التمطط فقلبت إحدى الطاءين ياء كما قالوا: تظنّي تظنيًا والأصل تظنن تظننًا، لإرداف: الإتباع والاتِّباع وهو بمعنى الأول ههنا. الأعجاز: المآخير، الواحد عَجُز وعَجِز وعَجْز. ناء: مقلوب نأى بمعنى بعد، كما قالوا: راء بمعنى رأى وشاء بمعنى شأى2. الكلكل: الصدر والجمع كلاكل. الباء في قوله ناء بكلكل. للتعدية، وكذلك هي في قوله: تمطى بصلبه، استعار لليل صلبًا واستعار لطوله لفظ التمطي ليلائم الصلب واستعار لأوائله لفظ الكلكل ولمآخيره لفظ الأعجاز

يقول: فقلت لليل لما مد صلبه يعني لما أفرط طوله، وأردف أعجازًا يعني ازدادت مآخيره امتدادًا وتطاولًا، وناء بكلكل يعني أبعد صدره، أي: بَعُدَ العهد بأوله، وتلخيص المعنى: قلت لليل لَمّا أفرط طوله وناءت أوائله وازدادت أواخره تطاولًا، وطول الليل ينبئ عن مقاساة الأحزان والشدائد والسهر المتولد منها؛ لأن المغموم يستطيل ليله، والمسرور يستقصر ليله.

ألاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِــي

بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ منِكَ بِأَمْثَــلِ

الانجلاء: الانكشاف، يقال: جلوته فانجلى أي: كشفته فانكشف. الأمثل: الأفضل، والمثلى الفضلى، والأماثل الأفاضل.

يقول: قلت له ألا أيها الليل الطويل انكشف وتنحَّ بصبح، أي: ليزل ظلامك بضياء من الصبح، ثم قال: وليس الصبح بأفضل منك عندي لأني أقاسي الهموم نهارًا كما أعانيها ليلًا، أو لأن نهاري أظلم في عيني لازدحام الهموم عليَّ حتى حكى الليل، وهذا إذا رويت: وما الإصباح منك بأمثل، وإن رويت: فيك بأفضل، كان المعنى وما الإصباح في جنبك أو في الإضافة إليك أفضل منك لِمَا ذكرنا من المعنى لَمَّا ضجر بتطاول ليله خاطبه وسأله الانكشاف، وخِطابه ما لا يعقل يدل على فرط الوله وشدة التحيّر، وإنما يستحسن هذا الضرب في النسيب والمراثي وما يوجب حزنًا وكآبة ووجدًا وصبابة.

فَيَــا لَكَ مَنْ لَيْلٍ كَأنَّ نُجُومَـهُ

بِـأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إِلَى صُمِّ جَنْــدَلِ

الأمراس جمع مرس: وهو الحبل، وقد يكون المرس جمع مَرَسة وهو الحبل أيضًا، فتكون الأمراس حينئذ جمع الجمع، وقوله: بأمراس كتّان، من إضافة البعض إلى الكل، أي: بأمراس من كتان، كقولهم: باب حديد، وخاتم فضة، وجبّة خز. الأصم: الصلب، وتأنيثه الصمّاء، والجمع الصُمّ. الجندل: الصخرة، والجمع جنادل.
قول مخاطبًا الليل: فيا عجبًا لك من ليل كأن نجومه شدت بحبال من الكتان إلى صخور صلاب، وذلك أنه استطال الليل فيقول: إن نجومه لا تزول من أماكنها ولا تغرب، فكأنها مشدودة بحبال إلى صخور صلبة، وإنما استطال الليل لمعاناته الهموم ومقاساته الأحزان فيه، وقوله: بأمراس كتان، يعني ربطت، فحذف الفعل لدلالة الكلام على حذفه؛ الإغارة: إحكام الفتل. يذبل: جبل بعينه.

يقول: كأن نجومه قد شدت إلى يذبل بكل حبل محكم الفتل.
[box type=”info” align=”” class=”” width=””]لم يروِ جمهور الأئمة هذه الأبيات الأربعة في هذه القصيدة وزعموا أنها لتأبّطَ شرًّا أعني: وقربة أقوام إلى قوله: وقد أغتدي،[/box]

وقِـرْبَةِ أَقْـوَامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَــا

عَلَى كَاهِـلٍ مِنِّي ذَلُوْلٍ مُرَحَّــلِ

العصام: وكاء وهو ما يشد به رأس القربة.الجمع العصم. الكاهل: أعلى الظهر عند مركب العنق فيه والجمع الكواهل. الترحيل: مبالغة الرّحل، يقال: رحلته إذا كررت رحله.
يقول: ورب قربة أقوام جعلت وكاءها على كاهل ذلول قد رحل مرة بعد مرة أخرى مني، وفي معنى البيت قولان: أحدهما أن تمدح أثقال الحقوق ونوائب الأقوام من قرى الأضياف وإعطاء العفاة2 والعقل3 عن القاتلين وغير ذلك، وزعم أنه قد تعود التحمل للحقوق والنوائب، واستعار حمل القربة لتحمل الحقوق ثم ذكر الكاهل؛ لأنه موضع القربة من حاملها وعبر بكون الكاهل ذلولًا مرحلًا عن اعتياده تحمل الحقوق. والقول الآخر أنه تمدح بخدمته الرفقاء في السفر وحمله سقاء الماء على كاهل قد مرن عليه.

وَوَادٍ كَجَـوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُــهُ

بِـهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالخَلِيْعِ المُعَيَّــلِ

الوادي يجمع على الأودية والأوداية. الجوف: باطن الشيء، والجمع أجواف. العير: الحمار، والجمع الأعيار. القفر: المكان الخالي، والجمع القفار، ويقال أقفر المكان إقفارًا إذا خلا، ومنه خبز قفار لا إدام معه. الذئب يجمع على الذئاب والذياب والذؤبان ومنه قيل ذؤبان العرب للخبثاء المتلصصين. وأرض مذأبة: كثيرة الذئاب، وقد تذأبت الريح وتذاءبت إذا هبت من كل ناحية كالذئب إذا حذر من ناحية أتى من غيرها. الخليع: الذي قد خلعه أهله لخبثه، وكان الرجل منهم يأتي بابنه إلى الموسم ويقول: ألا إني قد خلعت ابني فإن جَرّ1 لم أضمن وإن جُرَّ عليه لم أطلب فلا يؤخذ بجرائره، وزعم الأئمة أن الخليع في هذا البيت المقامر. المعيل: الكثير العيال، وقد عيَّل تعييلًا فهو معيل إذا كثر عياله. العواء: صوت الذئب وما أشبهه من السباع، والفعل عوى يعوي عواء.

زعم صنف من الأئمة أنه شبه الوادي في خلائه من الإنس ببطن العير، وهو الحمار الوحشي إذا خلا من العلف وقيل: بل شبهه في قلة الانتفاع به بجوف العير؛ لأنه لا يركب ولا يكون له درّ، وزعم صنف منهم أنه أراد كجوف الحمار فغير اللفظ إلى ما وافقه في المعنى لإقامة الوزن، وزعموا أن حمارًا كان رجلًا من بقية عاد وكان متمسكًا بالتوحيد، فسافر بنوه فأصابتهم صاعقة فأهلكتهم، فأشرك بالله وكفر بعد التوحيد، فأحرق الله أمواله وواديه الذي كان يسكن فيه فلم ينبت بعده شيئًا فشبه امرؤ القيس هذا الوادي بواديه في الخلاء من النبات والإنس.

يقول: وربّ وادٍ يشبه وادي الحمار في الخلاء من النبات والإنس أو يشبه بطن الحمار فيما ذكرنا طويته سيرًا وقطعته، وكان الذئب فيه من فرط الجوع كالمقامر الذي كثر عياله ويطالبه عياله بالنفقة، وهو يصيح بهم ويخاصمهم إذ لا يجد ما يرضيهم به.

فَقُلْـتُ لَهُ لَمَّا عَوَى : إِنَّ شَأْنَنَــا

قَلِيْلُ الغِنَى إِنْ كُنْتَ لَمَّا تَمَــوَّلِ

قوله: إن شأننا قليل الغنى، يريد: إن شأننا أننا قليل الغنى، ومن روى طويل الغنى فمعناه طويل طلب الغنى. وقد تموّل الرجل إذا صار ذا مال. لَمّا بمعنى لم في البيت.
كذلك يقول: قلت للذئب لَمَّا صاح إن شأننا وأمرنا يقلّ غنانا إن كنت غير متمول كما كنت غير متمول، وإذا روي طويل الغنى، فالمعنى: قلت له إن شأننا أننا نطلب الغنى، ثم لا نظفر به إن كنتَ قليل المال كما كنت قليل المال.

كِــلاَنَا إِذَا مَا نَالَ شَيْئَـاً أَفَاتَـهُ

ومَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثِي وحَرْثَكَ يَهْـزَلِ

أصل الحرث إصلاح الأرض وإلقاء البذر فيها، ثم يستعار للسعي والكسب

يقول: كل واحد منا إذا ظفر بشيء فوّته على نفسه أي: إذا ملك شيئًا أنفقه وبذّره ثم قال: ومن سعى سعيي وسعيك افتقر وعاش مهزول العيش.

وَقَـدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَـا

بِمُنْجَـرِدٍ قَيْـدِ الأَوَابِدِ هَيْكَــلِ

غدا يغدو غدوًا واغتدى اغتداءً واحدًا. الطير جمع طائر مثل الشَّرْب في جمع شارب والتَّجْر في جمع تاجر والركب في جمع راكب. ثم يجمع على الطيور مثل بيت وبيوت وشيخ وشيوخ. الوكنات: مواقع الطير، واحدتها وكنة، وتقلب الواو همزة فيقال أكنة، ثم تجمع الوكنة على الوُكُنات، بضم الفاء والعين، وعلى الوُكَنات، بضم الفاء وفتح العين، وعلى الوُكْنات، بضم الفاء وسكون العين، وتُكَسَّر على الوُكَن، وهذا حكم فعلة نحو ظلمة وظُلُمات وظُلَمات وظُلَم. المنجرد: الماضي في السير، وقيل: بل هو القليل الشعر. الأوابد: الوحوش، وقد أبد الوحش يأبد أبودًا، ومنه تأبد الموضع إذا توحش وخلا من القُطَّان، ومنه قيل للفذ آبدة لتوحشه عن الطباع. الهيكل، قال ابن دريد: هو الفرس العظيم الجرم، والجمع الهياكل.

يقول: وقد أغتدي والطير بعد مستقرة على مواقعها التي باتت عليها على فرس ماضٍ في السير قليل الشعر، يقيّد الوحوش بسرعة لحاقه إياها عظيم الألواح والجرم؛

وتحرير المعنى: أنه تمدَّحَ بمعاناة دجى الليل وأهواله، ثم تمدَّحَ بتحمل حقوق العفاة والأضياف والزوار، ثم تمدح بطيّ الفيافي والأودية، ثم أنشأ الآن يتمدح بالفروسية. يقول: وربما باكرت الصيد قبل نهوض الطير من أوكارها على فرس هذه صفته. وقوله: قيد الأوابد جعل لسرعة إدراكه الصيد كالقيد لها لأنها لا يمكنها الفوت منه كما أن المقيد غير متمكن من الفوت والهرب.

مِكَـرٍّ مِفَـرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِـرٍ مَعــاً

كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

الكر: العطف، يقال: كرّ فرسه على عدوه أي: عطفه عليه، والكر والكرور جميعًا الرجوع، يقال: كر على قرنه يكر كرًّا وكرورًا، والْمِكَر مفعل من كرّ يكرّ، ومفعل يتضمن مبالغة كقولهم: فلان مسعر حرب وفلان مقول ومصقع، وإنما جعلوه متضمنًا مبالغة؛ لأن مفعلًا قد يكون من أسماء الأدوات نحو المعول والمكتل1 والمخرز، فجعل كأنه أداة للكرور وآلة لسعر الحرب وغير ذلك. مِفَرٍّ: مفعل من فرّ يفرّ فرارًا، والكلام فيه نحو الكلام في مِكَرّ. الجلمود والجلمد: الحجر العظيم الصلب، والجمع جلامد وجلاميد. الصخر: الحجر، الواحدة صخرة، وجمع الصخر صخور. الْحَطّ: إلقاء الشيء من علو إلى سفل، يقال: حطه يحطه فانحط. وقوله: من عَلِ أي: من فوق، وفيه سبع لغات، يقال: أتيته من علُ، مضمومة اللام، ومن علو بفتح الواو وضمها وكسرها، ومن عليْ، بياء ساكنة ومن عالٍ مثل قاضٍ، ومن معال، مثل معاد، ولغة ثامنة يقال من علا،

قوله: كجلمود صخر، من إضافة بعض الشيء إلى كله مثل باب حديد وجبّة خز، أي: كجلمود من صخر.

يقول: هذا الفرس مِكَرّ إذا أريد منه الكرّ، ومِفَرّ إذا أريد منه الفر، ومقبل إذا أريد منه إقباله، ومدبر إذا أريد منه إدباره، وقوله: معًا، يعني أن الكر والفر والإقبال والإدبار مجتمعة في قوته لا في فعله؛ لأن فيها تضادًا، ثم شبهه في سرعة مَرِّه وصلابة خلقه بحجر عظيم ألقاه السيل من مكان عالٍ إلى حضيض.

كَمَيْتٍ يَزِلُّ اللَّبْـدُ عَنْ حَالِ مَتْنِـهِ

كَمَا زَلَّـتِ الصَّفْـوَاءُ بِالمُتَنَـزَّلِ

زل الشيء يزل زليلا، وأزللته أنا. الحال: مقعد الفارس من ظهر الفرس. الصفواء والصفوان والصفا: الحجر الصلب. الباء في قوله بالمتنزل للتعدية.

يقول: هذا الفرس الكُمَيت1 يزلّ لبده عن متنه لانملاس ظهره واكتناز لحمه، وهما يحمدان من الفرس، كما يُزِلّ الحجرُ الصلب الأملس المطر النازل عليه، وقيل: بل أراد الإنسان النازل عليه، والتَنَزّل والنزول واحد، والمتنزل في البيت صفة لمحذوف وتقديره بالمطر المتنزل أو بالإنسان المتنزل، وتحرير المعنى: أنه لاكتناز لحمه وانملاس صلبه يزل لبده عن متنه كما أن الحجر الصلب يزل المطر أو الإنسان عن نفسه. وجرّ كميتًا وما قبله من الأوصاف؛ لأنها نعوت لمنجرد.

عَلَى الذَّبْلِ جَيَّاشٍ كأنَّ اهْتِـزَامَهُ

إِذَا جَاشَ فِيْهِ حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَـلِ

الذبل والذبول واحد، والفعل ذبل يذبل. الجياش مبالغة جائش، وهو فاعل من جاشت القدر تجيش جيشًا وجيشانًا إذا غلت، وجاش البحر جيشًا وجيشانًا إذا هاجت أمواجه. الاهتزام: التكسر. الحمي: حرارة القيظ2 وغيره والفعل حمي يحمى. المرجل: القدر من صُفر3 أو حديد أو نحاس أو شبهه، والجمع المراجل، وروى ابن الأنباري وابن مجاهد عن ثعلب أنه قال: كل قدر من حديد أو صفر أو حجر أو خزف أو نحاس أو غيرها فهو مرجل.

يقول: تغلي فيه حرارة نشاطه على ذبول خلقه وضمر بطنه، وكأن تكسر صهيله في صدره غليان قدر، جعله ذكي القلب نشيطًا في السير والعدو على ذبول خلقه وضمر بطنه ثم شبه تكسر صهيله في صدره بغليان القدر.

مَسْحٍ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنَى

أَثَرْنَ الغُبَـارَ بِالكَـدِيْدِ المُرَكَّـلِ

سح يسحّ: قد يكون بمعنى صب يصب وقد يكون بمعنى انصب ينصب، فيكون

مرة لازمًا ومرة متعديًا، ومصدره إذا كان متعديًا السَّحّ، وإذا كان لازمًا السح والسحوح تقول: سَحَّ الماء فَسحَّ هو، ومِسَحٍّ مفعل من المتعدي، وقد قررنا أن مفعلًا في الصفات يقتضي مبالغة، فالمعنى أنه يصب الجري والعدو صبًّا بعد صبٍّ. السابح من الخيل: الذي يمد يديه في عدوه، شبه بالسابح في الماء. الونى: الفتور، ونى يني ونيًا وونى. الكديد: الأرض الصلبة المطمئنة. الْمُركَّل من الرَّكل: وهو الدفع بالرجل والضرب بها، والفعل منه ركل يركل ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: “فركلني جبريل” 1. والتركيل التكرير والتشديد، والمركَّل الذي يركل مرة بعد أخرى.

يقول: يصب هذا الفرس عدوه وجريه صبًّا بعد صبٍّ، أي يجيء به شيئًا بعد شيء، إذا أثارت جياد الخيل التي تمد أيديها في عدوها الغبار في الأرض الصلبة التي وطئت بالأقدام والمناسم2 والحوافر مرة بعد أخرى في حال فتورها في السير وكلالها؛ وتحرير المعنى: أنه يجيء بجري بعد جري إذا كلّت الخيل السوابح وأعيت وأثارت الغبار في مثل هذا الموضع. وجر مسحًا لأنه صفة الفرس المنجرد ولو رفع لكان صوابًا وكان حينئذٍ خبر مبتدأ محذوف تقديره هو مِسَحّ، ولو نصب لكان صوابًا أيضًا وكان انتصابه على المدح، والتقدير: أذكر مِسَحًّا أو أعني: مِسَحًّا، وكذلك القول فيما قبله من الصفات نحو كميت، يجوز في كل هذه الألفاظ الأوجه الثلاثة من الإعراب. ويروى المرحّل.

يُزِلُّ الغُـلاَمُ الخِفَّ عَنْ صَهَـوَاتِهِ

وَيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيْـفِ المُثَقَّـلِ

الْخِفّ: الخفيف. الصهوة: مقعد الفارس من ظهر الفرس، والجمع الصهوات وفعله تجمع على فعَلات، بفتح العين، إذا كانت اسْمًا، نحو شَعرة وشعَرات وضربة وضربات، إلا إذا كانت عينها واوًا أو ياء أو مدغمة في اللام فإنها تسكن حينئذ، نحو بيضة وبيضات وعورة وعورات وحبة وحبات، فإذا كانت صفة تجمع على فعْلات، مسكّنة العين أيضًا، نحو ضخمة وضخمات وخدلة1، وخدلات. ألوى بالشيء: رمى به، وألوى به ذهب به. العنيف: ضد الرقيق.

يقول: إن هذا الفرس يُزل ويُزلق الغلام الخفيف عن مقعده من ظهره ويرمي بثياب الرجل العنيف الثقيل، يريد أنه يزلق عن ظهره من لم يكن جيد الفروسية عالِمًا بها ويرمي بأثواب الماهر الحاذق في الفروسية لشدة عدوه وفرط مرحه في جريه، وإنما عبر بصهواته ولا يكون له إلا صهوة واحدة؛ لأنه لا لبس فيه، فجرى الجمع والتوحيد مجرى واحدًا عند الاتساع؛ لأن إضافتها إلى ضمير الواحد تزيل اللبس كما يقال: رجل عظيم المناكب وغليظ المشافر، ولا يكون له إلا منكبان وشفتان، ورجل شديد مجامع الكتفين، ولا يكون له إلا مجمع واحد. ويروى: يُطير الغلام، أي يطيره، ويروى: يزل الغلام الخفّ، بفتح الياء من يزل ورفع الغلام فيكون فعلًا لازمًا.

دَرِيْرٍ كَخُـذْرُوفِ الوَلِيْـدِ أمَرَّهُ

تَتَابُعُ كَفَّيْـهِ بِخَيْـطٍ مُوَصَّـلِ

لدرير: من دَرّ يدر، وقد يكون درّ لازمًا ومتعديًا يقال: درت الناقة اللبن فدر اللبن، ثم الدرير ههنا يجوز أن يكون بمعنى الدار من دار إذا كان متعديًا، والفعل يكثر مجيئه بمعنى الفاعل نحو قادر وقدير وعالم وعليم، ويجوز أن يكون بمعنى الْمُدِرّ من الإدرار وهو جعل الشيء دارًّا، وقد يكثر الفعيل بمعنى المفعل كالحكيم بمعنى المحكم والسميع بمعنى المسمع، أي المسمع. الخذروف: حصاة مثقوبة يجعل الصبيان فيه خيطًا فيديرها الصبي على رأسه. شبه سرعة هذا الفرس بسرعة دوران الحصان على رأس الصبي. الوليد: الصبي، والجمع الولدان، وجمع خذاريف، والوليدة: الصبية، وقد يستعار للأمة، والجمع الولائد. الإمرار: إحكام الفتل.

قول: هو يدرّ العدو والجري أي: يديمهما ويواصلهما ويتابعهما ويسرع فيهما إسراع خذورف الصبي إذا أحكم فتل خيطه وتتابعت كفاه في فتله، وإدارته بخيط قد انقطع ثم وصل، وذلك أشد لدورانه لانملاسه ومرونه على ذلك، وتحرير المعنى: أنه مديم السير والعدو متابع لهما، ثم شبهه في سرعة مره وشدة عدوه بالخذروف في دورانه إذا بولغ في فتل خيطه موصلًا؛ ويسوغ في إعراب درير ما ساغ في إعراب مسح من الأوجه الثلاثة.

لَهُ أيْطَـلا ظَبْـيٍ وَسَاقَا نَعَـامَةٍ

وإِرْخَاءُ سَرْحَانٍ وَتَقْرِيْبُ تَتْفُـلِ

الأيطل والإطْل والإطل: الخاصرة، والجمع الأياطل والآطال، أجمع البصريون على أنه لم يأت على فِعِل من الأسماء إلا إبل، ومن الصفات إلا بِلِزِ وهي الجارية التارة1 السمينة الضخمة، وحكى الكوفيون إطلًا من الأسماء أيضًا مثل إبل، فقد اتفق الفريقان على اقتصار فعل على هذه الثلاثة. الظبي يجمع أظب وظباء، والساق على الأسؤق والسوق. والنعامة تجمع على النعامات والنعام والنعائم. الإرخاء ضرب من عدو الذئب يشبه خَبَب الدواب، السرحان: الذئب، والتقريب: وضع الرجلين موضع اليدين في العدو. التتفل: ولد الثعلب: شبه خاصرتي هذا الفرس بخاصرتي الظبي في الضمر، وشبه ساقيه بساقي النعامة في الانتصاب والطول، وعدوه بإرخاء الذئب، وتقريبه بتقريب ولد الثعلب، فجمع أربعة تشبيهات في هذا البيت.

ضَلِيْعٍ إِذَا اسْتَـدْبَرْتَهُ سَدَّ فَرْجَـهُ

بِضَافٍ فُوَيْقَ الأَرْضِ لَيْسَ بِأَعْزَلِ

الضليع: العظيم الأضلاع المنتفخ الجنبين، والجمع الضلعاء والمصدر الضلاعة والفعل ضلُع يضلُع. والاستدبار: النظر إلى دبر الشيء، وهو مؤخره، وتتبع دبر الشيء. الفرج: الفضاء بين اليدين والرجلين، والجمع الفروج، الضَّفْوُ. السبوغ والتمام والفعل ضفا يضفو، أراد بذنَب ضافٍ فحذف الموصوف اجتزاء بدلالة الصفة عليه، كقولهم: مررت بكريم، أي: بإنسان كريم. فويق: تصغير فوق وهو تصغير التقريب مثل قبيل وبُعَيد في تصغير قبل وبعد. الأعزل: الذي يميل عظم ذنبه إلى أحد الشقين.

يقول: هذا الفرس عظيم الأضلاع منتفخ الجنبين إذا نظرت إليه من خلفه رأيته قد سد الفضاء الذي بين رجليه بذنبه السابغ1 التام الذي قرب من الأرض وهو غير مائل إلى أحد الشقين فسبوغ ذنبه من دلائل عتقه وكرمه، وشرط كونه فويق الأرض؛ لأنه إذا بلغ الأرض وطئه برجليه وذلك عيب؛ لأنه ربما عثر به، واستواء عسيب2 ذنبه أيضًا من دلائل العتق والكرم.

كَأَنَّ عَلَى المَتْنَيْنِ مِنْهُ إِذَا انْتَحَـى

مَدَاكَ عَرُوسٍ أَوْ صَلايَةَ حَنْظَـلِ

المتنان: تثنية متن وهما ما عن يمين الفقار وشماله. الانتحاء: الاعتماد والقصد. المداك: الحجر الذي يسحق به الطيب وغيره، والذي يسحق عليه أيضًا مداك، والدَّوك: السحق، الفعل منه داك يدوك دوكًا، الصَلاية: الحجر الأملس الذي يسحق عليه شيء كالهبيد وهو حب الحنظل. ويروى: كأن سراته لدى البيت قائمًا. السراة: أعلى الظهر، والجمع السروات، ويستعار لعلية الناس، وسراة النهار أعلى مداه، والسرو الارتفاع في المجد والشرف، والفعل منه سرا يسرو وسرى يسري وسَرُوَ يسرو، ونصب قائمًا على الحال. شبَّهَ انملاس ظهره واكتنازه باللحم، بالحجر الذي تسحق العروس به أو عليه الطيب، أو بالحجر الذي يكسر عليه الحنظل ويستخرج حبّه، وخص مداك العروس لحدثان عهدها بالسحق للطيب.

كَأَنَّ دِمَاءَ الهَـادِيَاتِ بِنَحْـرِهِ

عُصَارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْـبٍ مُرَجَّـلِ

والجمع دماء ودُمِيّ، والتصغير دُمَيّ، والقطعة منه دَمَة، حكاها الليث، وقد دمي الشيء يدمي إذا تلطخ بالدم، وأدميته أنا ودميته. الهاديات المتقدمات والأوائل، وسمي المتقدم هاديًا؛ لأن هادي القوم يتقدمهم، ومنه قيل لعنق الفرس هادٍ؛ لأنه يتقدم على سائر جسده. عصارة الشيء: ما خرج منه عند عصره. الترجيل: تسريح الشعر. المرجَّل: الْمُسَّرح بالمشط.

يقول: كأن دماء أوائل الصيد والوحش على نحر هذا الفرس عصارة حناء خضب بها شيب مُسَرَّح، شبه الدم الجامد على نحره من دماء الصيد بما جف من عصارة الحناء عن شعر الأشيب، وأتى بالمرجَّل لإقامة القافية.

فَعَـنَّ لَنَا سِـرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَـهُ

عَـذَارَى دَوَارٍ فِي مُلاءٍ مُذَبَّـلِ

عنَّ أي: عرضَ وظهر. السرب: القطيع من الظباء أو النساء أو القطا أو المها أو البقر أو الخيل، والجمع الأسراب. النعاج: اسم لإناث الضأن وبقر الوحش وشاء الجبل، والواحدة نعجة، وجمع التصحيح نعجات، والمراد بالنعاج في هذا البيت إناث بقر الوحش، وبالسرب القطيع منها. العذراء: البكر التي لم تمس، والجمع عذارى. الدوار: حجر كان أهل الجاهلية ينصبونه ويطوفون حوله تشبيهًا بالطائفين حول الكعبة إذا نأوا عن الكعبة. الملاء: جمع ملاءة، وإنما تسمى ملاءة إذا كانت لِفْقَين1. المذيل: الذي أطيل ذيله وأرخي.

يقول: فعرض لنا وظهر قطيع من بقر الوحش كأن إناث ذلك القطيع نساء عَذارَى يطفن حول حجر منصوب يطاف حوله في ملاء طويل ذيولها، وشبه المها في بياض ألوانها بالعذارى لأنهن مصونات في الخدور لا يغير ألوانهن حر الشمس وغيره، وشبّه طول أذيالها وسبوغ شعرها بالملاء المذيل. وشبّه حسن مشيها بحسن تبختر العذارى في مشيهن.

فَأَدْبَرْنَ كَالجِزْعِ المُفَصَّـلِ بَيْنَـهُ

بِجِيْدٍ مُعَمٍّ فِي العَشِيْرَةِ مُخْـوَلِ

الجزع: الخرز اليماني. الجيد: العنق، والجمع الأجياد، ورجل أجيد طويل العنق، وجمعه جود، الْمُعِمّ: الكريم الأعمام. الْمُخْوِل: الكريم الأخوال، وقد أعمَّ وأخوَل إذا كرم أعمامه وأخواله، وهذان من الشواذ؛ لأن القياس من أفعل فهو مُفعِل، وهما أفعل فهو مُفعَل.

يقول: فأدبرت النّعاج كالخرز اليماني الذي فصل بينه بغيره من الجواهر في عنق صبي كرم أعمامه وأخواله، وشبه بقر الوحش بالخرز اليماني؛ لأنه يسوَّدُ طرفه وسائره

أبيض، وكذلك بقر الوحش تسوَّدُ أكارعها وخدودها وسائرها أبيض، وشرط كونه في جيدٍ مُعِمّ مُخوِل؛ لأن جواهر قلادة مثل هذا الصبي أعظم من جواهر قلادة غيره، وشرط كونه مفصلًا لتفرقهن عند رؤيته.

فَأَلْحَقَنَـا بِالهَـادِيَاتِ ودُوْنَـهُ

جَوَاحِـرُهَا فِي صَرَّةٍ لَمْ تُزَيَّـلِ

الهاديات: الأوائل المتقدمات. الجواحر: المتخلفات، وقد جحر أي: تخلّف الصرّة: الجماعة، والصرَّة الصيحة، ومنه صرير القلم وغيره. الزيل والتزييل: التفريق، والتزيل والانزيال: التفرق.

يقول: فألحقنا هذا الفرس بأوائل الوحش ومتقدماته وجاوز بنا متخلفاته فهي دونه أي أقرب منه في جماعة لم تتفرق أو في صيحة؛ وتلخيص المعنى: أنه يلحقنا بأوائل الوحش ويدع متخلفاته ثقة بشدة جريه وقوة عدوه فيدرك أوائلها وأواخرها مجتمعة لم تتفرق بعد، يريد أنه يدرك أوائلها قبل تفرُّقِ جماعتها، يصفه بشدة عدوه.

فَعَـادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ ونَعْجَـةٍ

دِرَاكاً وَلَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَـلِ

المعاداة والعداء: الموالاة. الثور يجمع على الثيران والثِيَرة والثِوَرة والثِيَارة والأثوار والثيار. الدراك: المتابعة.

يقول: فوالى بين ثور ونعجة من بقر الوحش في طلق1 واحد ولم يعرق عرقًا مفرطًا يغسل جسده، يريد أنه أدركهما وقتلهما في طلق واحد قبل أن يعرق عرقًا مفرطًا، أي: أدركهما دون معاناة مشقة ومقاساة شدة، نسب فعل الفارس إلى الفرس؛ لأنه حامله وموصله إلى مرامه، يقول: صاد هذا الفرس ثورًا ونعجة في طلق واحد. ودراكًا أي مداركة.

فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِن بَيْنِ مُنْضِجٍ

صَفِيـفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيْرٍ مُعَجَّـلِ

الطهو والطهي: الإنضاج، والفعل طها يطهو ويطهي، والطهاة جمع طاهٍ كالقضاة جمع قاضٍ والكفاة جمع كافٍ. الإنضاج: يشتمل على طبخ اللحم وشيِّه.

لصفيف: المصفوف على الحجارة لينضج. القدير: اللحم المطبوخ في القدر.

يقول: ظل المنضجون اللحم وهم صنفان صنف ينضجون شواء مصفوفًا على الحجارة في النار، وصنف يطبخون اللحم في القدر؛ يقول كثر الصيد فأخصب القوم فطبخوا واشتووا؛ ومن في قوله: من بين منضج للتفصيل والتفسير، كقولهم: هم من بين عالم وزاهد، يريد أنهم لا يعدون الصنفين، كذلك أراد لم يَعْدُ طهاة اللحم الشاوين والطابخين.

ورُحْنَا يَكَادُ الطَّرْفُ يَقْصُرُ دُوْنَـهُ

مَتَى تَـرَقَّ العَيْـنُ فِيْهِ تَسَفَّـلِ

الطرف: اسم لما يتحرك من أشفار العين، وأصله التحرك، والفعل منه طرف يطرف. القصور: العجز، والفعل قصر يقصر. الترقي والارتقاء والرقي واحد، والفعل من الرقي رَقِيَ يَرْقَى، وأما رقى يرقي فهو من الرقية، وقد رقيته أنا أي حملته على الرُّقِيّ.

يقول: ثم أمسينا وتكاد عيوننا تعجز عن ضبط حسنه واستقصاء محاسن خلقه، ومتى ما ترقت العين في أعالي وشخصه نظرت إلى قوائمه، وتلخيص المعنى أنه كامل الحسن رائع الصورة تكاد العيون تقصر عن كُنه حسنه ومهما نظرت العيون إلى أعالي خلقه اشتهت النظر إلى أسافله.

فَبَـاتَ عَلَيْـهِ سَرْجُهُ ولِجَامُـهُ

وَبَاتَ بِعَيْنِـي قَائِماً غَيْرَ مُرْسَـلِ

يقول: بات مسرجًا ملجمًا قائمًا بين يدي غير مرسل إلى المرعى

أصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيْكَ وَمِيْضَـهُ

كَلَمْـعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّـلِ

أصاح: أراد أصاحب أي: يا صاحب، فرخم كما تقول في ترخيم حارث يا حار، وفي ترخيم مالك يا مال، أراد يا حارث، والألف نداء للقريب دون البعيد، تقول: أزيد إذا كان زيد حاضرًا قريبًا منك، ويا نداء للبعيد والقريب، وأي وأيا وهيا لنداء البعيد دون القريب. الوميض والإيماض: اللمعان، تقول: ومض البرق يمض وأومض إذا لمع وتلألأ. اللمع: التحريك والتحرك جميعًا. الحبيّ: السحاب المتراكم، سمي بذلك لأنه حَبَا بعضه إلى بعض فتراكم، وجعله مكللًا لأنه صار أعلاه كالإكليل لأسفله، ومنه قولهم: كلّلت الرجل إذا توّجته وكللت الجفنة ببضعات اللحم إذا جعلتها كالإكليل لها، ويروى مكلِل، بكسر اللام، وقد كلل تكليلًا، وانكلّ انكلالًا إذا تبسم.

يقول: يا صاحبي هل ترى برقًا أريك لمعانه وتلألؤه وتألقه في سحاب متراكم صار أعلاه كالإكليل لأسفله أو في سحاب متبسم بالبرق يشبه برقه تحريك اليدين؟ أراد أنه يتحرك تحركهما؛ وتقدير البيت: أريك وميضه في حبي مكلل كلمع اليدين؛ شبه لمعان البرق وتحركه بتحرك اليدين. فرغ من وصف الفرس والآن قد أخذ في وصف المطر فقال:

يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيْحُ رَاهِـبٍ

أَمَالَ السَّلِيْـطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّـلِ

السنا: الضوء، والسناء: الرفعة. السليط: الزيت، ودهن السمسم سليط أيضًا، وإنما سمي سليطًا لإضاءتهما السراج، ومنه السلطان لوضوح أمره. الذُّبال: جمع ذبالة وهي الفتيلة. وقد يثقل فيقال ذبَّال.

يقول: هذا البرق يتلألأ ضوؤه فهو يشبه في تحركه لمع اليدين أو مصابيح الرهبان أمليت فتائلها بصبّ الزيت عليها في الإضاءة، يريد أن تحرك البرق يحكي تحرك اليدين وضوءه يحكي ضوء مصباح الراهب إذا أفعم1 صبُّ الزيت عليه فيضيء. وزعم أكثر الناس أن قوله أمال السليط بالذبال المفتل من المقلوب، وتقديره: أمال الذبال بالسليط إذا صبَّه عليه، وقال بعضهم: إن تقديره أمال السليط مع الذبال المفتل، يريد أن يميل المصباح إلى جانب فيكون أشد إضاءة لتلك الناحية من غيرها.

قَعَدْتُ لَهُ وصُحْبَتِي بَيْنَ ضَـارِجٍ

وبَيْنَ العـُذَيْبِ بُعْدَمَا مُتَأَمَّـلِ

ضارج والعُذَيب: موضعان. بعد ما: أصله بَعُدَ ما فخففه فقال بَعْدَ، وما زائدة وتقديره: بعُد متأملي.

يقول: قعدت وأصحابي للنظر إلى السحاب بين هذين الموضعين، وكنت معهم فبعد متأملي وهو المنظور إليه، أي بعد السحاب الذي كنت أنظر إليه وأرقب مطره وأشيم1 برقه، يريد أنه نظر إلى هذا السحاب من مكان بعيد فتعجب من بعد نظره، وقال بعضهم: إن ما في البيت بمعنى الذي، وتقديره، بعد ما هو متأملي، فحذف المبتدا الذي هو هو، وتقديره على هذا القول: بعد السحاب الذي هو متأملي.

عَلَى قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِـهِ

وَأَيْسَـرُهُ عَلَى السِّتَارِ فَيَذْبُـلِ

ويروى: علا قطنًا، من علو يعلو علوًّا، أي علا هذا السحاب. القَطَن: جبل، وكذلك الستار ويذبل جبلان، وبينهما وبين قَطَن مسافة بعيدة. الصوب: المطر، وأصله مصدر صاب يصوب صوبًا أي نزل من علو إلى سفل. الشيم: النظر إلى البرق مع ترقب المطر.

يقول: أيمن هذا السحاب على قطن وأيسره على الستار ويذبل، يصف عظم السحاب، وغزارته وعموم جوده، وقوله: بالشيم، أراد: إني ما أحكم به حدسًا وتقديرًا لأنه لا يرى ستارًا ويذبل وقطن معًا.

فَأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ : يَكُبُّ عَلَى الأذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ

الكب: إلقاء الشيء على وجهه، والفعل كبّ يكبّ. وأما الإكباب فهو خرور الشيء على وجهه، وهذا من النوادر؛ لأن أصله متعد إلى المفعول به ثم لَمَّا نقل بالهمزة إلى باب الأفعال قصر عن الوصول إلى المفعول به، وهذا عكس القياس المطرد؛ لأن ما لم يتعد إلى المفعول في الأصل يتعدى إليه عند النقل بالهمزة من باب الأفعال نحو: قعد وأقعدته وقام وأقمته وجلس وأجلسته، ونظير كبّ وأكب عرضَ وأعرضَ؛ لأن عرضَ متعدٍ إلى المفعول به؛ لأن معناه أظهر، وأعرض لازم، لأن معناه ظهر ولاح؛

فأعرضت اليمامة واشمخرت … كأسياف بأيدي مصلتينا

الذقن: مجتمع اللحيين، والجمع الأذقان، والأذقان مستعار في البيت للشجر، الدوحة: الشجرة العظيمة، والجمع دوح. الكنهبل، بضم الباء وفتحها: ضرب من شجر البادية.

يقول: فأضحى هذا الغيث أو السحاب يصب الماء فوق هذا الموضع المسمى بكتيفة ويلقي الأشجار العظام من هذا الضرب الذي يسمى كنهبلًا على رءوسها، وتلخيص المعنى: أن سيل هذا الغيث ينصبّ من الجبال والآكام1، فيقلع الشجر العظام. ويروى: يسح الماء من كل فيقة، أي: بعد كل فيقة، والفيقة من الفواق: وهو مقدار ما بين الحلبتين، ثم استعاره لما بين الدفعتين من المطر.

ومَـرَّ عَلَى القَنَـانِ مِنْ نَفَيَانِـهِ

فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْـزِلِ

القنان: اسم جبل لبني أسد. النفيان: ما يتطاير من قطر المطر وقطر الدلو ومن الرمل عند الوطء ومن الصوف عند النفش وغير ذلك. العُصم: جمع أعصم، وهو الذي في إحدى يديه بياض من الأوعال2 وغيرها. المنزل: موضع الإنزال.

يقول: ومرّ على هذا الجبل مما تطاير وانتشر وتناثر من رشاش هذا الغيث فأنزل الأوعال العصم من كل موضع من هذا الجبل، لهولها من وقع قطره على الجبل وفرط انصبابه.

وتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَـةٍ

وَلاَ أُطُمـاً إِلاَّ مَشِيْداً بِجِنْـدَلِ

تيماء: قرية عادية في بلاد العرب. الجذع يجمع على الأجذاع والجذوع، والنخلة على النخلات والنخل والنخيل. الأطم: القصر، والأطم الأزج3، والجمع الآطام. الشيد: الجص، والشيد الرفع وعلو البنيان، والفعل منه شاد يشيد. الجندل: الصخر، والجمع الجنادل.

يقول: لم يترك هذا الغيث شيئًا من جذوع النخل بقرية تيماء، ولا شيئًا من القصور والأبنية إلا ما كان منها مرفوعًا بالصخور أو مجصصًا، يعني أنه قلع الأشجار وهدم الأبنية إلا ما كان منها مرفوعًا بالحجارة والجص.

كَأَنَّ ثَبِيْـراً فِي عَرَانِيْـنِ وَبْلِـهِ

كَبِيْـرُ أُنَاسٍ فِي بِجَـادٍ مُزَمَّـلِ

ثبير: جبل بعينه. العرنين: الأنف، وقال جمهور الأئمة: هو معظم الأنف، والجمع العرانين، ثم استعار العرانين لأوائل المطر؛ لأن الأنوف تتقدم الوجوه. البجاد: كساء مخطط، والجمع البُجُد. التزميل: التلفيف بالثياب، وقد زملته بثياب فتزمَّل بها أي: لففته فتلفف بها. وجرّ مزملًا على جوار بجاد وإلا فالقياس يقتضي رفعه؛ لأنه وصف كبير أناس، ومثله ما حكي عن العرب من قولهم: جحر ضبٍّ خربٍ، جر خرب بمجاورة ضب،

جر المتضاجَم على جوار الثورة والقياس نصبه؛ لأنه صفة ثفر، ونظائرها كثيرة. الوبل: جمع وابل وهو المطر الغزير العظيم القطر، ومثله شارب وشَرْب وراكب ورَكْب وغيرهما، والوبل أيضًا مصدر، وبلت السماء تبل وبلًا إذا أتت بالوابل.

يقول: كأن ثبيرًا في أوائل مطر هذا السحاب سيد أناس قد تلفف بكساء مخطط شبه تغطيته بالغثاء بتغطي هذا الرجل بالكساء.

كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُـدْوَةً

مِنَ السَّيْلِ وَالأَغثَاءِ فَلْكَةُ مِغْـزَلِ

الذروة: أعلى الشيء، والجمع الذُّرى. المجيمر: أكمة بعينها، الغُثاء ما جاء به السيل من الحشيش والشجر والكلأ والتراب وغير ذلك، والجمع الأغثاء. المغزل بضم الميم وفتحها وكسرها معروف، والجمع المغازل. فلكة المغزل مفتوحة الفاء.

يقول: كأن هذه الأكمة غدوة مما أحاط بها من أغثاء السيل فلكة مغزل شبه استدارة هذه الأكمة بما حاط بها من الأغثاء باستدارة فلكة المغزل وإحاطتها بها بإحاطة المغزل.

وأَلْقَى بِصَحْـرَاءِ الغَبيْطِ بَعَاعَـهُ

نُزُوْلَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المُحَمَّلِ

الصحراء تجمع على الصحارى والصحاري معًا، الغبيط هنا: أكمة قد انخفض وسطها وارتفع طرفاها، سميت غبيطًا تشبيهًا بغبيط البعير. البعاع: الثقل. قوله: نزول اليماني، أي: نزول التاجر اليماني. العياب: جمع عيبة1 الثياب.

يقول: ألقى هذا الحيا2 ثقله بصحراء الغبيط فأنبت الكلأ وضروب الأزهار, وألوان النبات، فصار نزول المطر به كنزول التاجر اليماني صاحب العياب المحمل من الثياب حين نشر ثيابه يعرضها على المشترين؛ شبه نزول هذا المطر بنزول التاجر وشبه ضروب النبات الناشئة من هذا المطر بصنوف الثياب التي نشرها التاجر عند عرضها للبيع؛ وتقدير البيت: وألقى ثقله بصحراء الغبيط فنزل به نزولًا مثل نزول التاجر اليماني صاحب العياب من الثياب.

كَأَنَّ مَكَـاكِيَّ الجِـوَاءِ غُدَّبَـةً

صُبِحْنَ سُلافاً مِنْ رَحيقٍ مُفَلْفَـلِ

المكاء: ضرب من الطير، والجمع المكاكي. الجواء: الوادي، والجمع أجوية. غديّة: تصغير غدوة أو غداة. الصبح: سقي الصبوح، والاصطباح والتصبح: شرب الصبوح. السلاف: أجود الخمر وهو ما انعصر من العنب من غير عصر. المفلفل: الذي ألقي فيه الفلفل، يقال: فلفلت الشراب أفلفله فلفلة فأنا مفلفِل والشراب مفلفَل.

يقول: كأن هذا الضرب من الطير سقي هذا الضرب من الخمر صباحًا في هذه الأودية، وإنما جعلها كذلك لحدة ألسنتها وتتابع أصواتها ونشاطها في تغريدها؛ لأنّ الشراب المفلفل يحذي اللسان ويسكر، فجعل نشاط الطير كالسكر وتغريدها بحدة ألسنتها من حذي الشراب المفلفل إياها.

كَأَنَّ السِّبَـاعَ فِيْهِ غَرْقَى عَشِيَّـةً

بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُـلِ

الغرقى: جمع غريق مثل مرضى ومريض وجرحى وجريح. العشي والعشية: ما بعد الزوال إلى طلوع الفجر وكذلك العشاء. الأرجاء: النواحي، الواحد رجا،

مقصور، والتثنية رجوان. القصوى والقصيا تأنيث الأقصى: وهو الأبعد: والياء لغة نجد والواو لغة سائر العرب. الأنابيش: أصول النبت، سميت بذلك لأنها ينبش عنها، واحدتها أنبوشة. العنصل: البصل البري.

يقول: كأن السباع حين غرقت في سيول هذا المطر عشيًّا أصول البصل البري؛ شبه تلطخها بالطين والماء الكدر بأصول البصل البري؛ لأنها متلطخة بالطين والتراب.

Recommended1 إعجاب واحدنشرت في شرح المعلقات

قد يعجبك أيضاً

تعليقات